الثلاثاء، 1 أبريل 2008

بيع السينما وبحوثها








المشهد :

بغداد ـ اكاديمية الفنون الجميلة ـ قسم السينما1994 ـ 1998


كنت في العشرين من العمر، وكانت السينما التي كنت أدرسها في بغداد حلماً بالنسبة لي ، في وقت كانت فيه بغداد تتضور جوعا منذ سنوات . أبتسم اليوم حينما التفت إلى سنوات دراستي السوريالية تلك. ابتسامة باهتة من الفزع الذي لم تزل آثاره تطاردني ، لم يكن لي بيت أو عائلة أو مال. ولم تكن في بغداد حينها أجوبة عن كل ذلك الجوع والخوف، حتى يمكنني الآن أن أجيب عن اسئلة عديدة منها : لِمَ لمْ يكن لي سقف أو عنوان؟ انها قصة سوريالية اخرى يصعب شرحها في هذه المشهد الموجز. ولكن كل ما يمكن قوله الآن هو أنني كنت املك الكثير من الاصدقاء. الاصدقاء فحسب. حاولت قدر المستطاع الاستعانة بهؤلاء الاصدقاء من اجل التشبث بدراسة السينما بأي طريقة متاحة ، ليس من اجل الدراسة فحسب، وانما من اجل البقاء اطول مدة ممكنة بعيدا عن الخدمة في جيش البؤس والمرارة. مع ذلك، لم اتمكن من أكمال المرحلة الأولى. تقدمت بطلب لتأجيل السنة الدراسية . ذهبت الى سوق (الشورجة) للعمل وجمع المال . كنت أبيع علب الحليب والصابون والشامبو، لكنني لم اتمكن من الاستمرار في هذا العمل طويلا ، بعد حادثة المطاردة المرعبة حين دهمت السوق جماعة الأمن الاقتصادي في تلك الظهيرة اللعينة. كانت كل تجارتي كيساً كبيراً من علب حليب (كيكوز 1) ، اقترب مني شاب ثم آخر من الجهة الاخرى، ولم أكن بحاجة إلى ذكاء كبير لأعرف أنهم من الأمن الاقتصادي. طاردوني مثل كلاب حراسة مخلصة عبر أزقة الحيدر خانة الا أنني تمكنت من الإفلات بأعجوبة من قبضة الشاب الذي كان يمسكني من ياقة قميصي. خسرت كل نقودي التي أتاجر بها في كيس الحليب الذي صار اخيرا في مخازن الأمن الاقتصادي مع البضائع المصادرة. عدت من جديد للعمل في استعلامات فندق( فيروز) في شارع الجمهورية، بعد ان أقسمت انني لن اعود للعمل فيه مجددا، كنت اعرف النتيجة عن تجربة سابقة ، وأن راتب العمل سيذهب من دون أدنى شك بين افخاذ العاهرات وشرب الخمر، بسبب الأجواء المناسبة داخل فندق ( فيروز). لم تكن العاهرات ينقطعن عن الفندق، وكن يعملن على مدار الساعة، وفي كل مكان وزاوية. بالتأكيد كانت عودتي الى ( فيروز) اسوأ مما توقعت كثيرا. فبعد ايام بدأت استدين من صاحب الفندق مبالغ اضافية تفوق أجرتي الشهرية من اجل افخاذ الساحرات الجائعة ، حتى بدأ العام الدراسي الجديد. شعرت بالضجر بسبب الطلاب الجدد لأن اصدقائي كانوا قد انتقلوا للمرحلة الثانية. لكن بعد قليل تعايشت وأستسلمت. لفت انتباهي سخرية بعض الطلبة الجدد وبراعتهم في التهكم، لااقصد التهريج الذي يتمتع به أغلب الطلبة، بل تلك السخرية المرة والذكية التي توفر في بعض الأحيان انفاسا لابأس بها، لتحمل نهارات الحصار الشائكة. اخترت منهم البعض لتصوير مشهد قصير كنت قد اعددته من بعض القصائد لتقديمه الى استاذ مادة التمثيل. ثم مشهد قصير آخر .. وهكذا ، اصبح لدي اصدقاء جدد ومجموعة يمكن العمل معها. في أثناء تلك المرحلة تشكلت لدي صداقات اخرى خارج نطاق الاكاديمية من خلال قاعة حوار ( مجموعة حوار ستكون الرافد الحقيقي لمواصلة الحلم وصداقات مازالت تنبض بقوة حتى يومنا هذا ). كان اغلب طلبة الاكاديمية عبارة عن قطيع من الحمقى ( خاصة من ابناء تجار الحصار الجدد ورفاق حزب البعث) الذين وصلوا الى اكاديمية الفنون لأسباب لا علاقة لها بالفن، بل كانوا يعتبرون اكاديمية الفنون الجميلة حديقة للتنزه واستعراض أحذيتهم الجديدة وقمصانهم الأنيقة ، واغلبهم دخل الأكاديمة عبر ( واسطة) ما، او رشوة. اما طلبة المحافظات فقد كانوا يتساقطون تباعا ويتركون مقاعدهم الدراسية بسبب ظروفهم المادية القاسية .سأقول ومن دون تردد لأنه مشهد من زمن الخيبة، بأن حماقة قطيع المتنزهين كانت قد بدأت تدر علي بالكثير من الفوائد خاصة بعد النجاح الذي حققه فلمي الوثائقي الاول ( كاردينا) في المرحلة الثانية، وحصوله على جائزة. لقد بدأت طلبات كتابة السيناريو وانجاز الافلام القصيرة لطلبة المرحلة الرابعة كمشاريع تخرج لا تتوقف. وبدات احرض ( مجموعتي) على مواصلة العمل معي والأفادة من فرصة التعلم ،خاصة مع وجود كل هؤلاء الطلاب المتخمين والمستعدين للدفع وتمويل مشاريع تخرجهم ، مشكلتهم انهم يملكون أدمغة من صفيح لهذا هم بحاجة ( للتخرج) بأموال عائلاتهم السعيدة. بالنسبة لي كانت اكثر من فرصة مناسبة للقيام بالتجارب العملية واختبار بعض الأفكار حول شكل الفلم القصير, خاصة وان الاكاديمية كانت عبارة عن بناية عاطلة عن العمل وحديقة للمتنزهين !. لا كاميرات لا اجهزة اضاءة، ولا حتى أبسط متطلبات العمل السنمائي، كانت هناك فقط الدروس النظرية . وأساتذة يهربون من البلاد واخرون يموتون حزنا واخرون كلاب لحزب العبث. غادر الكثير من السينمائيين العراق . ومات جعفر علي. وظل مجيد الخطيب ببدلته الزيتوينة وصلعته الحزبية مع حارث عبود وهما يطوفان على طلاب قسم السينما لتسجيل اسمائهم في دورات التدريب العسكري الصيفية والاجبارية . وكان صباح الموسوي يحاول مع طلبة المرحلة الثانية في الفلم الوثائقي من خلال حثهم على انجاز افلام قصيرة بالإمكانيات المتاحة، لعله يحرك ساكناً. وكان الطلاب يشكون من الامكانيات الانتاجية. وكان صباح الموسوي يصطدم دائما بغباء بعض الطلبة ، حتى وان توفرت لهم كاميرات. بدأت أنا بكتابة البحوث الدراسية المطلوبة مقابل بعض المبالغ للطلبة من مختلف المراحل. ما ان يطلب على سبيل المثال استاذ مادة السيناريو من طلبته، كتابة بحث عن المعالجة القصصية السينمائية كانت تنهال علي الطلبات ، نجتمع في بيت احد الطلاب. وابدأ العمل!! كان لابد من كتابة بحث مختلف لكل واحد منهم حتى لا يشعر استاذ مادة السيناريو بأن كاتب البحوث هو الشخص نفسه. وكنت اجري بعض التغيرات الطفيفة في مقدمة البحث ونهايته على أمل ان ( الاستاذ) لن يقرأ كل بحوث الطلبة المقدمة ولو شاء ذلك ، لقرأ البداية او النهاية فحسب. ثم بدأت طلبات الكتابة تصلني من طلبة الدوام المسائي. وهؤلاء كانوا يدفعون بطريقة أفضل لأن اغلبهم كان من الذين يعملون او لديهم وظائف في الدولة. وافضل من كان يدفع هم الطلبة من ( العرب)، من التونسين والاردنين، بسبب فارق العملة، حيث سقط الدينار العراقي حينها الى الحضيض هو وجميع أنفاس الحياة التي لكم ان تتخيلوها. لااذكر كم من البحوث كتبت. حتى انني كتبت نصف رسالة ماجستير لأحد الطلبة وانا مازلت في المرحلة الثانية، بعد ان طلب مني استاذه المشرف ذلك بطريقة مباشرة ( حسن ، اكتب له بحثاً عن هذا الموضوع .. لكن ارجوك لا تخبر احدا .. ولا تهتم بأمر الفلوس) ، كان مبلغا لا يفوت في زمن الفاقة الأسود. لكن ما كان يدر المتعة والفائدة والسعادة سوى النقود الصغيرة التي كانت توفر السندويشات والسجائر وكلفة المواصلات، هي متعة اشتغال مشاريع( افلام قصيرة) لتخرج الطلبة. كنت اتفق مع الطالب على سعر معين لكتابة واخراج الفيلم سوية ، وكان اسم الطالب ككاتب سيناريو ومخرج يطبع في التايتل ليقدمه كمشروع للتخرج. لكنني لم اكن اتعامل مع الكتابة بوصفها مجرد كتابة ستعود علي ببعض المال، كنت احاول في كل مرة ان أختبر بعض الافكار حول السيناريو ، واختبر قدرتي على التعامل مع الكاميرا، وقد كانت تمارين لابأس بها. الا ان بعد مرور مدة احسست بفظاعة حياتي وإلى أي مستوى منحط تجرني ظروف الجوع و الحصار. شعرت أنني ابيع احلامي من اجل علبة سجائر. وشعرت انني اتفسخ، وأن الساعات والدقائق والثواني قد تحولت الى سكاكين تنهش في لحمي. لم تكن لي حقيبة أحملها،وانما كان كيسا اسودا يحتوي على قميص ازرق وبنطال جينز وبعض الاوراق والكتب، حين قررت ان أهرب بما تبقى لي من انفاس الى كوردستان العراق.وحين وصلت الى اول شبر بعد نقطة التفتيش التي كانت تسيطر عليها الحكومة احسست انني لن اعود الى بغداد ابدا. بل لن ارضى حتى ان يعودوا بجثتي !!

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

Great piece. sureal