الثلاثاء، 1 أبريل 2008

انفصام أم مرايا


حول سيناريو وفيلم حسن بلاسم ( النهايات)*

كورش قادر







- "في كل عمل فني جديد ينبغي ابتكار لغة جديدة "
هذا ما يحدثنا به ميشيل ديرميه.

هذه اللغة الجديدة تفترض كشفا وابتكارا لتمفصلات جديدة بين الاحجار والمفردات اللواتي هن اللبنات الاساسية لفعل ما.. فالمفاصل بين الاحجار والوحدات سترسم هيكلية العمل أو ما اصطلح عليه بالشكل إذا ما اقترحناه الإناء الذي تحيا وتتنفس فيه مضامين ودلالات المنجز، أفلا يتخذ السائل شكل الوعاء الذي يودع فيه ؟ ولعل هذا المشروع في الاستهلال لايخفي تصورا فيزيائيا للتشريح والمعالجة، في الحين الذي لا يتسنى إغفال العضوي واللاعضوي اذا ما توخينا الدقة كيميائيا. ولتلمس ( الدقة لا الوضوح ) كما يوصي (اندريه جيد) سنعتمد مصطلحي هيكلية وعضوية كوجهين لصيرورة واحدة : نقطة التقاء وتحول ما هو فيزيائي بما هو كيميائي : حالة انشاطر الذرات حيث النور حجر والحجر نور. الابتكار اوالخلق هو تلك الفرادة الناجمة عن ذلك اللقاء الفذة التعس والعابر للمكان والزمن للمحسوس واللامحسوس ، للنسبي والمطلق، للمجهري والتلسكوبي في عين الرائي، في مقابل التقنية كأداة وخبرة متاحة الاكتساب والمزاولة " كل شيئ في غاية التعقيد كل شيئ في غاية البساطة " هذا ما يقوله ( كامي) على لسان كاليكولا، او ما انتظر كاليكولا قوله على لسان ( كامي) ، ولما لا ؟ للتعاطي وبضع لمحات بايجاز بما يتناسب وزمن عرض الفيلم لا رؤاه ومدلولاته الغنية،يتناول النهايات واقع كناس مسحوق ونكرة حيث لاضوء على خلفية هذه الشخصية ( طفولة.. عائلة.. الخ) يقوم بجمع النفايات في طرقات مدينة ثم باحراقها بما تنطوي عليه مدلولات هذه الشخصية من واقعية واستلاب بغير منأى عن البؤس والقذارة وما يشتمل عليه فعل الحرق كمكافئ كيميائي مرئي لما للنار من مضامين تطهيرية واتلافية. وفي معالجة شخصية كهذه ، سيكون ثم استغوار للواقع من زاوية تحتية ربما احالتنا لواقعية ( بازوليني) وسينما ( الاندركراوند) الامريكية حيث الفقر والتشرد ومشاهد ليلية لحيوات مسحوقة. تستوقف هذا العامل ساعة يدوية محطمة يعثر عليها بينما يكنس الشارع في اشارة صريحة للزمن لا تخلو من تعطل. الا ان مايشد على الايقاع هو عثوره على محفظة مفقودة يجتذبه فيها دفتر صغير لأرقام هواتف.وتفرز هذه المفارقة بضعا من المشاهد المتفرعة من استخدامه للهاتف تبرز فيها السخرية السوداء كعلامة فارقة ربما احالتنا الى استدارة ( اوليفر ستون) سيما وتلك اللقطات التي تقترب فيها الكاميرا من الفك. لتتباطأ النبرة وتتبدل في مكالمة لاحقة مع آخر بكل ما تشتمل عليه مفردة آخر ومغايرة من دلالة بايلوجية وطبقية وجمالية يغلب عليها طابع فضول وشغف تجري خلالها ( اي المكالمة) الاشارة الى محلية الاحداث شعرا عبر ابيات للشاعر الكردي ( كوران)، تمهد هذه المكالمة للقاء بين الكناس والمرأة ، لايتم بسبسب مقتل الكناس اثر حادث مروري لا يمكن البت في انه كان عرضيا أم مخططا له؟ كسابق أم لاحق؟ كواقع أم محض وهم؟ بما ان النهايات وعودا على بدء يستهل مشهده الاول بعزلة كاتب سيناريو واضطرابه لمعالجة نص سيناريو يكون الكناس هو الشخصية المحورية ومرآة لاختلاجاته.
وبتساوق زمني مضارع تمتد جسور المونولوغ الجواني واخرى مضمرة لتمهد لصدمة مرئية قوامها المكاشفة المرة بلقاء مربك بين كاتب السيناريو وشخصيته ( الكناس) لا تخلو من فنتازيا حرجة سوداء في تقاطع لمحور عمودي مع محور افقي يخرق حدود المتعارف عليه للغة السينمائية بمعنييها الاستهلاكي التداولي من جهة والجمالي الذوقي من جهة اخرى بما يترتب على ذلك من تشويش مرئي و زمني من جانب ومن تشكيك لوظيفة اللغة من جانب آخر . ويشاهد المتلقي ( الجمهور) ويشهد التنامي الحلزوني المضارع للصورتين وانفراطه في النهاية بذلك اللقاء المجهض بين الكناس والمرأة، ويتجمهر الناس عند موقع الحادث المسلف آنفا ومغادرة كاتب السيناريو للموقع والحشد ( مغادرته لنصه ) ومروره بجانب المرأة التي تترك تنتظر. ولكن اين في الشارع ام في النص؟

مكانيا يتوزع السيناريو والمشاهد بين الغرفة والشارع ، وما حاجة للخوض في دلالات الغرفة من العزلة، توحد، داخل، خاص .. الخ.
في حين تسود المشاهد الليلية على تلك النهارية بما قد يكفي للاعتقاد بنزوع الايقاع عبر مدارات المستتر الذاتي، الظل، اللامعقول.. الخ.
ايقاع المشهد الواحد بطيئ نسبيا ، لكن المونتاج هو الذي يحث الوتيرة : المونتاج هو فن اعادة تشكيل الزمن.
مما يجدر التلميح له هو ان جدلية الجمال/ القبح تخفق في ان تكفل موازينها، ذلك ان المرأة كحضور مرئي محسوس من جهة اقل واضعف قاعدية لمكافأة حجم ومعادلة تركيز الحامضية في السيناريو والشريط والمتجلية بمشاهد البؤس والضياع والنهاية المأساوية، ومن جهة أخرى المرأة كرمز للخصوبة ودلالة للديمومة. فالرجل ( الكناس) والمرأة لا يحدث بينهما اتصال مرئي ومحسوس، وهكذا يتخذ العقم لا مدلولات بايلوجية وحسب، بل وطبقية وجمالية ومعرفية تطال التأريخ والحياة والمعنى واشكالية السلطة عبر حوارات ومنولوغات متزامنة وان تقنعت بحيرة هاملتية فأنها لاتستر نزعة ( مالدورورية) عبر التكرار، جدلية الخلق/ القتل، خلل المونولغ من جانب، وخلل الصورة من جانب آخر فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن فعل التنظيف باعتباره فعلا ذو ثيمة بناءة ، في مقابل فعل الاحراق باعتباره فعلا هداما اتلافيا ، ( ان ما تعلمنا اياه الحياة ببطء، تعلمنا اياه النار بسرعة) يحدثنا باشلار.
عضويا فالسيناريو مجبول على رؤية انفصامية منفصمة حيث المونلوغ من زاوية، والمشهد من زاوية اخرى ينشطران ويتمزقان بين صيرورتين في صورة واحدة تعيد تشكيل وتشكيك وهدم صورتها، وهنا تبرز اشكالية العقل عبر الصورة: ( لست عاقلا بما فيه الكفاية لاصدق انني مجنون ولست مجنونا بما فيه الكفاية لاصدق انني عاقل )
ان احدى الثيمات المعمارية لسيناريو النهايات هي المعضلة الناجمة عن تشابك واخذ بالخناق لاشكالية مرئية مع إشكالية لا مرئية. فالمتخيل (بكسرالياء) (كاتب السيناريو) يتقاطع ويتمحور مع المتخيل (بفتح الياء ) ( الكناس) في هيكلية ونسيجية الصورة والايقاع بمعنى مقارب ومواز لا يخلو من التحريض على سؤال متاخم : هل تدور مجريات الجملة المرئية والسمعية حول المتخيل( بكسر الياء) بافتراضه محورا للخلق والإفناء وعمودا للرؤية وزاوية للتدوين والامحاء؟ ام انها تتحلزن وتنصب حول المتخيل(بفتح الياء) كمحور للخلفية وتبدد لعمود النظر في صيرورة مكررة ؟ لاهي بالواقع ولا هي بالباطل ؟
هذا التجاور والتوازي لفنتازيا الصورة في الصورة/ مقابل/ جدلية البحث عن الصورة في الصورة ، سيكفل ديمومة من خلال التكرر والتكرار في المرآة اخرى : المتلقي ( الجمهور ) .
فالجمهور الجالس في العتمة ( اللامرئي) يشاهد ويشهد الشاشة ( المرئي) ، وينخرط بذلك في اشكالية المتخيل/المتخيل ذاتها ، بمعنى انه ينزلق في ورطة المشاركة السلبية للتلقي والمتواطئة ضمنا مع مجريات السيناريو وعند هذه العتبة يتململ تساؤل وجداني بما ان المشاهدة لا تستحث الشك والحيرة حسب، بل وتخلف ما يشبه الاحساس بالريبة والذنب والمسؤلية، ومن جانب اخر فان المتلقي ( الجمهور ) يسقط مرة اخرى في اشكالية المتخيل/ المتخيل ما ان يغادر قاعة العرض( العتمة) ويخرج الى الشارع( المرئي ) ليندرج مرة اخرى بهوية المتخيل.
بعبارة ملؤها الدهشة واليأس انطلوجيا : لمن نستدرك الاسبقية والوجود والمعاني واليقين: للمتخيل ؟ ام للمتخيل؟ وهو ان المتلقي فعلا ليس بمنأى عن لعبة الوجود/ العدم المرحة الخطرة هذه؟
ليس من التطويح بعوائق التسلسل الزمني يتأتى هذا الخرق وحسب، بل ومن نسف لجولوجيا الصورة والمخيلة مما يؤسس لما هو شعري سينمائيا، لا لما هو تأثيري وتأثري ( بلا عاطفية احببت الاشياء) يقول المعلم (البرتو كاييرو)، وبين اي صورتين في الاخرى؟ تتنافذ وتتجاور وتتهشم العلامات والاشارات والاستعارات المرئية والمسموعة عبر بصيرة السينارست والمخرج ( حسن بلاسم) الوافد الراحل من والى خشبة المسرح ومدن الحكاية وضفاف القصيدة ، بسيميائية عصارتها: الكاميرا لا الكاميرا ، فجمالية هذا السيناريو المزدوج المضارع لا تكمن في اضافة او حذف كمي بل في خلق واقحام نسب ومعايير كيميائية للرؤية السينمائية.
.....
*( النهايات) فيلم قصير باللغة الكردية السليمانية/ 2001



ليست هناك تعليقات: