الثلاثاء، 1 أبريل 2008

التنوع الأسلوبي في بنية السرد الوثائقي




التنوع الأسلوبي في بنية السرد الوثائقي

مراجعات في بنية الفيلم



د. صباح الموسوي

منذ البدايات الاولي للسينما العراقية أرتبط أنتاج الفلم الوثائقي بالدولة ومؤسساتها الامر الذي جعل العملية الانتاجية خاضعة الي أهداف وتوجيهات مرسومة ، وعلي مدي هذه السنين التي تمتد من عام 1958 حتي يومنا هذا أنتج عدد كبير من الافلام الوثائقية أنحسر أغلبها ضمن محور الدعاية والاعلام والتعبئة . ونسبه قليلة توزعت بين موضوعات آخري متنوعة. أتسمت معظم هذه الافلام في معالجاتها بملامسة الواقع ولم تتغلغل فيه واكتفت بالوصف دون التحليل ضمن صياغات سردية تقليدية غلبت عليها الصفة التقريرية .. عدا عدد قليل من الافلام أحتفظت بها ذاكرة المشاهد العراقي مثل فلم الاهوار للمخرج قاسم حوك وفلم حكاية للمدي للمخرج بسام الوردي وفلم حركة للمخرج عباس الشلاة. ولم يتحرر أنتاح هذا النوع من الافلام من سطوة المنتج الا تلك الافلام التي أنجزت ضمن المختبرات الطلابية وخاصة المختبر الطلابي في كلية الفنون الجميلة حيث فتح باب التجريب ومنحت الحرية للطالب في الأختبار والمعالجة فكانت الحصيلة أن أنجزت اعمال وثائقية ذات تنوع في صياغتها السردية لم تشهدها السينما العراقية من قبل برغم تواضع الامكانيات التقنية والمادية. واعتزازاً وتقديراً لهذه التجربة المحلية أتخذت منها فلم (كاردينيا) للاستشهاد عن التنوع الاسلوبي في بنية الفلم الوثائقي .. أخراج الطالب( حسن بلاسم ). شارك عدد من طلبة المرحلة الثانية في أنجازه موضوعة الفلم: يتناول المدة الاخيرة من حياة الحاج توفيق . وهو موظف حكومي من سكنة المحافظات يعمل في بغداد. ويسكن احد فنادق العاصمة خلال مدة الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. بطل الفلم الحاج توفيق يقضي حياته أعزب حتي مرحلة التقاعد. وفي أحد الايام وأثناء مراجعته دائرة التقاعد يوافيه الاجل في أحد الزوارق علي ضفاف نهر دجلة. ولم يترك بعد هذا العمر سوي ذكريات وآمال بقيت حبيسة غرفته داخل الفندق.


القراءة
يثير عنوان الفلم (كاردينيا) أكثر من تساؤل في ذهن المتلقي. فمنذ بداية العرض حتي أنتهائه والسؤال المشار هو لماذا كاردينيا. هل الشخصية محبة لهذا النوع من الازهار؟ هل هو اسم امرأة؟ أو عنوان أغنية أم تشبيه من قبل المخرج لحياة الحاج توفيق؟. ينتهي الفلم ويبقي العنوان شفره من شفرات العمل مفتاح حله بيد المخرج وهو حق مشروع . أما المقدمة الاستهلاليه فكانت علي شكل لقطات قصيرة متنوعة نستدل من خلالها علي القائمين بالعمل والموضوع المراد تصويره . فاللقطات السريعة لحوار الصياد وبعض الشهود الذين عاصروا الحاج توفيق وآخري لفريق العمل نكتشف أن العمل ذو قيمة مركبة فالاحداث فيه تسير في خطين متوازيين الاول فريق العمل ومعاناة الانتاج والحب المفاجئ من طرف واحد لأحد أعضاء الفريق العامل مع أحدي بنات المحلة أثناء التصوير. والخط الثاني فهو موضوعة الفلم الرئيسة وهي سرد قصة حياة الحاج توفيق. من خلال الناس الذين عرفوه والمكان الذي أمضي حياته فيه وأعادة تمثيل مدة من حياته ومن هنا تكمن قيمة العمل في القدرة علي خلق توازن منطقي في السرد بين هذين المحورين بشكل لايؤثر أحدهما علي الاخر بل نجح المخرج في توظيف المحور الاول المتعلق بفريق العمل لسد الثغرات في سرد حياة الحاج توفيق ووفق مرة آخر في تجنبه الدخول في تفاصيل جانبيه للموضوع وتركيزه علي المنافذ الاساسية لايصال المعلومة عن حياة الحاج توفيق مرة عن طريق أحدي الشخصيات التي عاصرته . ومرة أخري عن طريق أعادة بناء الحدث اي تصوير شخصية الحاج توفيق عن طريق أستخدام الممثل غير المحترف. وتارة آخري نستدل بها أشاريا من مكونات اللقطة ومن خلال الانتقاء الدقيق لمراحل معينة من حياة الحاج توفيق أستطاع المخرج أن يرسم لنا الملامح الاساسية من حياته مثل نمط معيشته ، وعيه الثقافي علاقته بالاخرين مستخدماً الاسلوبين الروائي والوثائقي من أجل خلق بناء سردي مركب لايصال فكرة العمل للمتلقي .. فلم كاردينيا يحمل بين طياته أشارات كثيرة نحو شخصية توفيق ذات مضامين انسانية لاتقتصر علي شخصية الفلم فحسب بل يمكن لاي أنسان آخر أن نعانيها منها وهي الوحدة، الشيخوخه، العوز المادي ... وغيرها. وعلي الرغم من الضبابية التي تحيط بشيخوخة الحاج توفيق في بعديها الاجتماعي والنفسي إلا أنها تطرح نفسها كأنموذج لاحلام أنسان لم تجد صداها علي أرض الواقع. أنموذج لانسان حرق سنوات عمره علي هامش الحياة بأنتظار الفرصة (بعد وفاة الحاج توفيق وجدت الشرطة كيساً كبيراً مملوءاً ببطاقات اليانصيب) فالحاج توفيق مات ولم يترك سوي ذكريات وأحلام سرعان ما دفنت معه. وبسبب عدم معرفة الظروف التي دفعته الي هذا النمط من الحياة لايمكن للمشاهد الحكم علي شخصيته أهي سلبية أم أيجابية ولكن الشفافيه التي عرضت بها كانت تفرض تعاطف المشاهد معها كونها شخصية مسالمة تمتلك حساً وطنياً . أضافة الي كونها شخصية مثقفة ، أما خط الصوت فقد جاءت الاغنية الغربية التي رافقت الاحداث وأصبحت لازمة لشخصية الحاج توفيق غير منسجمة مع طبيعة وأجواء المكان الذي يجري فيه الحدث ، بالرغم من كونها جميلة اللحن والايقاع.


الزمن
تمتلك السينما خصوصية تتفرد بها عن بقية أشكال الفنون الاخري في التعامل مع عنصر الزمن . فهي الي جانب القدرة علي التعبير عن مختلف الازمنة. لها القدرة أيضاً علي التحكم والسيطرة علي حركة الزمن الماضي والحاضر والمستقبل. ومن هنا فأن تداخل الازمنة ضمن بنية الفلم وأطالته وتكثيفه لايشكل خرقاً لقوانين الطبيعة بالنسبة للمشاهد بقدر مايمثل أستجابة لرغبة كاضه داخل النفس البشرية منذ أقدم العصور للتحرر من جبروت الزمن علي الانسان.. لأن اللحظة التي تمر لايمكن لأية قوة في الكون من أعادتها سوي الله سبحانه وتعالي إذ لاعودة للدخان الي النار، لذا فأن الوهم الذي تخلقه السينما في أعادة الواقع في حركته يشبع حاجة في نفس الانسان . وانطلاقاً من هذا المفهوم تكمن بلاغة التعبير في فلم (كاردينيا) في السيطرة علي التداخل الزمني الذي تضمنه العرض . ففي السرد نجد هنالك ثلاثة فترات للزمن الماضي.. وزمن الحاضر (بالرغم من ان لغة الصورة تخاطب المشاهد في الزمن الحاضر دائماً) فالزمن الماضي الاول يمثله الرواة ممن عايشوا الحاج توفيق. ظل الصياد ، صاحب المخبز، موظف التقاعد صاحب الفندق . كلهم يتحدثون بالماضي عن الحاج توفيق اما الزمن الماضي الثاني فهو مرحلة شباب الحاج توفيق التي تمثلت في مشهد لقائه مع حبيبته ومشهد عمله السياسي السري وهواياته واهتماماته من خلال ماتركه من موجودات علي جدران الغرفة . وبشكل خاص من اللقطة البانورامية للملصقات.

اما الماضي الثالث فهو زمن الشيخوخة . وهي المدة المتبقية من حياته التي أمضاها في التجوال بين أزقة المكان المحيط بالفندق والمقهي ومراجعة دائرة التقاعد.

أن هذا التقسيم الزمني لماضي حياة الحاج توفيق وفق مراحل لم يكن وفق تسلسل منطقي بالسرد. بل تداخل معه الزمن الحاضر الذي تمثله مشاهد فريق العمل التي تداخلت بين هذه المدات لتقطع الاسترسال في السرد مستخدماً الاسلوب البرشتي في العرض ليقطع علي المشاهد أندماجه . ويذكره بأنه أمام شخصية حقيقية عاشت هنا وماتت بهذا الشكل . وأننا هنا نعمل فلماً عليها . أن البراعة التي أتسم بها فلم( كاردينيا) هو في دقه التوقيت في التقسيم الزمني بين الاحداث خالقاً ايقاعاً متناغماً ومتجانساً في تناوب هذه الازمنة في السرد بالشكل الذي يثير المشاهد ويشده ولكنه لايفقده أدراك واستيعاب مايجري خلال الربط الذهني من قبل المشاهد لاحداث الفلم.


المكان
المكان من وجهة نظر اللقطة الواحدة تحدده حركة الكاميرا وحجم اللقطة . أما من وجهة نظر المشهد فأنه تركيب معقد ينشأ من التأثر المتبادل لكن لقطة في الفلم الروائي . أما في الفلم الوثائقي فينبغي خلقه علي طالة المونتاج ونعني هنا قبل كل شيء ان الشخصيات في جميع اللقطات غير المترابطة من حيث المكان (وفي أحيان كثيرة في أزمنة متباعده وأجواء مختلفة) تكون معاً في العرض السينمائي للحدث . وقد يحدث في الافلام الوثائقية ان المادة المصورة قد تحتوي علي عدة أماكن وأزمنة متبانية . لذا يجب علي المخرج ان يجد رابطأ بين هذه الاماكن بما يحقق أنسيابيه في تدفق الاحداث. ففي فلم (كاردينيا) صور المخرج المكان الحقيقي الذي عاشت فيه الشخصية والذي شمل الفندق، أزقة الحارة، نهر دجلة ، واستطاع ان يوظف المكان في تحقيق هدفين.

الاول : انه يجعل من وحدة المكان متكا في خلق الترابط في تعاقب الأزمنة في بنية العمل

والثاني : بان يجعل من المكان معادلاً درامياً لشخصية الحاج توفيق يحمل همومه وذكرياته.فمن خلال اللقطات ذات الاطر الضيقة استطاع المخرج ان يثير فيها الاحساس بالوحدة والعزلة والضيق الذي تعانيها الشخصية.

وفي اللقطات الواسعة يشير المكان الي العمق الزمني الذي تعاقب علي الحاج توفيق والمكان الذي عاش فيه. اما المشاهد خارج حدود المحلة والفندق فأنها اتسمت بالاطر المفتوحة خصوصاً مشاهد النهر فانها تكشف عن جمالية المكان من خلال ديناميكية الحياة علي جانبي النهر وتشيع احساساً بالامل والحياة في شحصية الحاج توفيق وهو علي سطح (البلم) في طريقه الي دائرة التقاعد في جانب الكرخ ولم يغفل الفلم ابراز خصوصية المكان فمن خلال حركة الكاميرا واختيار الزوايا المناسبة تدرك سمات المحلة البغدادية وتشعر بنكهة الحياة فيها. وتاتي حركة لبانوراما لجدران الغرفة في الفندق بعد وفاة الحاج توفيق لتروي رحلة العمر التي وثفتها احلامه وذكرياته في هذا المكان. وأخيراً فان المخرج وفق في خلق وحدة بناء عضوية بين عنصري الزمان والمكان في سرد الأحداث.


المونتاج:
في فلم كاردينيا حيث التنوع الاسلوبي الذي أستخدمه المخرج في عرضه لحياة توفيق فرض عليه تنوعاً في الشكل المونتاجي لسرد الاحداث فالمقدمة الاستهلالية تجاورت فيها اللقطات وفق مونتاج تعدد الاحداث الذي يعتمد علي القطع السريع والمباشر.

اما السرد المتعلق بحياة الحاج توفيق فقد أعتمد علي مونتاج تعدد الاحداث والاسترجاع (فلاش باك)الذي قسم فيه الزمن الي مراحل ماضي الشباب وماضي الشيخوخة وعن طريق الربط المتناوب لهاتين المرحلتين من ماضي في الشخصية استطاع المخرج ان يبني جانباً من حياة الشخصية (الحاج توفيق) مستخدماً اللقطات لااعتراضية لفريق العمل اثناء السرد ليتجاوز فيها اشكالية الاستمرارية ويفرض علي المشاهدالجوانب التي أختارها هو (المخرج) من حياة الحاج توفيق فالاحداث في فيلم كاردينيا قد رتبت حسب رؤية ذاتيه.

ووفق ادراك مسبق للشكل العام للعلم من قبل المخرج معتمداً علي وعي المشاهد في الربط بين الاحداث واستخلاص المعني.


اما الصوت فقط جاء متزامناً مع الصورة حيث ان كل الحوارات التي وردت في الفلم عرضت بالتسجيل الحي . اي ان الشحصية تتحدث امام الكاميرا. وبالنسبة الي المؤثرات والموسيقي لم تتعد وظيفتها في ان تكون خلفية للاحداث وخلق الجو العام.


ليست هناك تعليقات: