الثلاثاء، 1 أبريل 2008

جرح الكاميرا






المشهد : السليمانية ـ 1999


كنا نقف على سفح جبل (ئه زمر) في مدينة السليمانية. وكانت لدينا كاميرا فيدو منزلية ( في ذلك الوقت كانت هذه الكاميرا تستخدم في بغداد لتصوير حفلات الزواج). كان من المفترض ان نصور مشهدا جماعيا للهجرة المليونية للأكراد الى الحدود الايرانية عقب انتفاضة 1991. ثلاث مشاهد ليلية. وكالعادة انا توهمت كثيرا في صناعة مشهد من خلال ما أسميه/ بالممكن يا أصدقاء !!. لكن حتى هذا الممكن كان ضربا من المستحيل في سنوات الحصار، ببساطة كنت أوهم ومازلت ، لكنني تمكنت من تشذيبها قليلا/ أوهامي التي أودت بي الى حفر لا شكل ولالون لها. وكان من المفترض ايضا ان يكون في المشهد المقصود مطر شديد يهطل على رؤوس المساكين على سفح الجبل العاري. اول المآزق التي واجهتها كانت في كيفية الحصول على مجموعة من الكومبارس. في مدنية لا يوجد فيها كاميرا سينمائية واحدة ولا حجرة صغيرة لتدريس السينما ولا حتى قطعة خشبية صغيرة لتدوين ارقام المشهد ( الكلاكيت). صنعنا كل شيء بأنفسنا وكأننا في العصر الحجري نبتكر حاجاتنا الصغيرة بسعادة وحشية. كنا بحاجة الى مجاميع من اطفال وشيوخ ونساء وشبان. لن نطيل عليكم اعزائي ، أخيرا ، وجدنا الحل !!

توسل كل من كان يعمل في الفيلم من ممثلين ومساعدين بعوائلهم لأنقاذ مشهدنا. قل اننا بعد جهد وتوسل ومشاورات حصلنا على مايقارب 16 كائنا بشريا. رغم ان العدد قليل بالنسبة لمشهد هجرة مليونية. الا أنني كنت قد وضعت خطة( اضعف الايمان) من خلال الزوايا التي سالتقطها ، لمعالجتها فيما بعد مع ارشيف وثائقي عن الهجرة ، موجود في محطات التلفزة الكردية. والآن جاءت أزمة المطر !!

كان أستاذ مادة المونتاج في الاكاديمة يؤكد لنا دائما على مقولة سيبليبرغ :( انا احلم والاخرون ينفذون احلامي).

حسنا الخطة الآن ان نقنع مديرية الأطفاء في المدينة لمساندتنا بسيارة أطفاء تزودنا بماء المطر. يبقى ان خرطوم الاطفائي بحاجة الى تنظيم مائه المتدفق الى حبات مطر. لكن اطفائياً ( لامعاً !!) اخبرنا ان بإمكانه رفع الخرطوم إلى الأعلى ليبدو الماء النازل وكأنه مطر حقيقي، واقسم لنا انه جرب ذلك أكثر من مرة. وبدا ان صديقنا قد اطفأ بيتاً محترقاً فيما قبل وهو يحلم بانه غيمة تمطر على بيت الناس المنكوب بالنار.

كل شيء جاهز ، كنا على سفح الجبل عندما دخل الليل ، الكومبارس (عوائل الممثلين) ، كاميرا اعراس، مصابيح صغيرة تستخدم في اضاءة المآتم ، وسيارة أطفاء ، واطفائي نشيط يحلم انه غيمة. كان الفيلم عبارة عن فيلم داخل فيلم. اي ان مشهد الهجرة على اساس انه ينفذ الآن من قبل مخرج داخل المشهد نفسه( الممثل شوان) الذي اقوم انا بالطبع باخراج مشهد ( المخرج مع المهاجرين) في موقع التصوير الحقيقي. وكان الحدث الاول ان يظهر الناس اسفل المطر ( هو الان اطفائي غيمة) ثم نشاهد المخرج (داخل الفيلم) وهو يتأمل الممثلين. الى ان يصيح بغضب وانزعاج :

stop

بعدها ازعق انا بدوري ( ستوب) للأنتقال الى زاوية ثانية. طبعا المشهد كان بحاجة الى اكثر من اعادة. ولم يكن صاحبنا الاطفائي العزيز غيمة أو أي شيء آخر ، بل كان يصب الماء فوق المساكين مثل شلال حقيقي.وبرودة ووحشة سفح الجبل في الليل تكبران بقوة. والناس تحولوا بعد الإعادة الأولى الى غرقى انتشلوا للتو من محيط هائج. وبدأت الفوضى تدب تدريجيا بسبب الطين الذي أخذ يتسع مع دفعات ماء صديقنا ( الشلال). وكان المخرج داخل الفيلم يصيح في كل مرة :

stop

واصيح انا: ( ستوب) اخرى / للأعادة.

حتى وقفت العوائل المسكينة التي لم تكن تفهم طبيعة المشهد ، ولم يزعق المخرج داخل الفيلم بصوت مرتفع عليهم وهو غاضب بشدة ، ولم أصرخ انا بدوري ايضا . طبعا المخرج (الممثل) كان ضمن واجباته التمثيلية ان يكون غاضبا داخل المشهد. وانا في حقيقة الامر كنت غاضبا بفعل صديقنا الاطفائي الذي صب علينا كل خزين سيارة الاطفاء دفعة واحدة. هنا توقف عقل العوائل المسكينة عن العمل. ثم رأيتهم يتشاورن فيما بينهم باللغة الكردية. تقدمت امراة منا وقالت بصرامة : ـ نحن لن نعمل معكم الا بشرط واحد

دهشنا جميعا للتمرد المخيف هذا . وكانت المسكينة ترتجف من البرد. يالطيبة هؤلاء الناس. واللعنة الف لعنة على حماقاتي.

المرأة : أحنة مو بقر تصيحون علينه.. اما كاكا ئازاد يصيح ( ستب)* علينا ( ئازاد، هو انا حسن بلاسم) او يصيح كاكا شوان : ستب!! ( شوان الممثل الذي يلعب دور المخرج)

هنا أنفجر فريق التصوير بالضحك من دون ان يفهم الكومبارس المسكين سبب الضحك. وظنوا ان الجميع يسخر منهم. فدخلوا معنا بعناد واصروا على تحديد امر : ستوب !!

كانت السليمانية اكثر من مدينة جميلة. وكان الناس قصائد من الطيبة والمآسي. وكان الساعة تشير الى ما بعد منتصف الليل. وكان كاكا شوان يصيح : ستوب. وكنت بعد الاتفاق مع فريق العمل اهمس مثل لص في اذن المصور : ستب !! لكي لا ينزعج الكومبارس المغضوب عليه بخرطوم السيد شلال. وكان المصور لا يكتم ضحكة بعد كل همسة : ستب / في اذنه .

السيد شلال الأطفائي افرغ اخيرا حتى الخزين الاحتياطي الملحق بسيارة الاطفاء، ولم يبق فيها قطرة واحدة. لكنه للأمانة كان مخلصا وكأنه يطفئ حريقا كبيراً. وليس مشهدا مسكينا بحاجة لحبات صغيرة من المطر.

اقفل باب غرفتي في الفندق القذر الذي كنت اعيش فيه. وكنت ابكي ربع ساعة واضحك ساعة . كنت مدركا تماما فشل الفيلم. وفشل هذه البلاد المحكومة بالبؤس والضياع. فشل في كل زاوية وشبر. حاضر من الفشل والخيبة. تاريخ من الفشل والجهل. الفشل هو الذي كان يمطر بدقة وانتظام على المشهد العملاق.


كادر

جرح الكاميرا : فيلم روائي كوردي ( سيناريو واخراج حسن بلاسم )1999

ئازاد : هو أسمي المستعار الذي عملت فيه في مدينة السليمانية خشية ان يبطش الدكتاتور بعائلتي في بغداد

ستب* : هكذا كانت تلفظها المراة ـ من الكومبارس


ليست هناك تعليقات: