الأحد، 6 أبريل 2008

رسائلي الى حسن بلاسم إعترافات من دون ذنوب



عدنان المبارك


عزيزي حسن. أشكرك على التمنيات والرسالة. صحيح أنه لم يبق عندنا غير فعل المراقبة ، ونحن هنا نباري الله ! فهو أيضا يكتفي بهذا الفعل ولايحرّك ساكنا ... وهذا هو الفارق الجوهري بينه وآلهة اليونان الذين يشاركون البشر في كل أفعالهم ... حصل الشيء نفسه معي ، فقد مرت الأيام الأخيرة من السنة الفائتة بهدوء شمل المراقبة أيضا... عثرت على نصوص للشاعرالليتواني كتبها بشكل يوميات محرومة من التواريخ. وحسنا فعل ، إذ ليس هناك من معنى أساسي لظاهرة التعاقب في فعل الكتابة ... أبعث برسوم أخرى أيضا. الظاهر أن حصص الرسم صارت لدي إستراحات حقيقية ، خاصة حين تعقب قراءات ( عسيرة ) مثل ( مفهوم الخوف ) لكييركيغورد... أنا أعود إليه حين تفزعني ظواهر مثل الله والحياة والثقوب السود بكلى نوعيها - الأرضية والكونية...
2.1.2008
مقدمتك لرسائلك إلي ّ من عام 2007 ليست ب( القصيرة جدا ). انا أفهم وصفك هذا. والتجربة نفسها مررت بها حين أردت أن أكتب المقدمة لرسائلي إليك : فرصة ذهبية للتعبير عن الموقف والشعور والأمل في أن ما يخفض لعناتنا ونحن على هذه الأرض اليباب هو أن برعما هنا وآخر هناك يتشقق بالخضرة... إنها كلمات جميلة وليس لأنك قد رسمت لها محورا هو أنا ، بل لأنك تشخص ما تشعر به بمثل هذه الحساسية ... كابوسك الليلي إمتداد لواقع أننا أحفاد أوديب الشرقيون الذين حشروا كلهم في زوايا مختلفة من الطابق الجحيمي نفسه. ومن إبتكر هذه اللعبة التي منحها السذج نعتا رومانسيا : الحياة ، لم ينقصه الدهاء حين عمل في كوابيسنا السود بضعة ثقوب بيض ، ثقوب الفن والصلة الدافئة بين فان ٍ وآخر ... الغريب أني لا أتذكر إلا القليل من كوابيس الليل. أسفي هنا كبير، بالطبع لا علاقة له بالمازوكية ... أرغب إخبارك بتجربة صغيرة بدأتها اليوم : تلخيص سيرة إنسان عبر صورخاضعة للتعاقب الزمني. هي ليست سيرة ذاتية وإن لم تفتقد بضع وقفات منها. وكنت قد تذكرت مشروعا لبرغمان عن تصوير فلم لايتناول أي شيء آخر غير التحولات الجارية على وجه إنسان معيّن - من الطفولة حتى الشيخوخة. كما أذكر كان قد ألمح الى هذه الرغبة في أحد أفلامه ، لكني لا أتذكرأيّ فلم منها. ما أذكره فقط أنه كانت هناك إشارات بهذا الخصوص في كتاب ( فن التصوير الشخصي ) الذي ترجمته. تجربة الصباح تتحدد في كتابة جمل ، وأحيانا كلمات ، مهمتها الإيماء الى فترات العمر. هل مرت عليك مثل هذه الخاطرة ؟ إنها فلمية في الجوهر. أكيد أن السينما تعرف مثل هذه التقنية. لكن لا أعرف شيئا عنها في حقل الكتابة.
6.1.2008
أكتب بشيء من التردد في قصة من نوع السكربت الفلمي. تشظيات حسب لا تبتعد كثيرا عن تيار الوعي. إنها مجرد تجربة وآمل أن لاتكون محرومة من قيمة ما. عدت الى الميثولوجيا اليونانية. ما يجذبني الى زيوس بشريته الصرفة التي تنقض وتناقض العلو غير المفهوم لرب آخر. رب الأولمب هذا يتصرف وكأنه من البشر الفانين بكل أحوال ضعفهم. شبقيته معروفة بالطبع وكم من المتاعب جرّت عليه ! عدتُ بشكل خاص الى أوديب وسلالته. سوفوكليس أغلق كل الأبواب بوجه بطله التراجيدي حين وجد أن مصير الإنسان خاضع تماما لأحكام العناية الإلهية وأن الآلهة يبعثون للإنسان بالعذاب ، وهم وحدهم القادرون على جعله متساميا أو يحظى بالرحمة. في المحصلة هو رأي صحيح تماما طالما لا نعرف من هو الجالس أمام لوحة مفاتيح الحاسوب الكوني... أكيد أنها قفزات في القراءة. وفيها أشعر بحريتي. أما الترجمة فهي مزيج من الحرفة والتحليق لكن بجناحين صغيرين...
8.1.2008
كنت قد أجبت على رسالتك السابقة لكن مع إستثناء الكلام عن صديقي ( ف ). أنا أشاطرك الرأي. فإمتيازه أنه ظهر في زمن العطش والصبّار. صحيح أنه صديقي لكن الحقيقة أقوى من العواطف. وهنا تقرضني الرغبة في الإستشهاد بذلك القول المعروف : ( الأعور في بلد العميان ملك ) ، لكن لا أريد جرح شعور أي ّ أحد ، رغم أن القول يعكس بأمانة كبيرة ، المسيرة السلحفاتية للقصة العراقية. ويعرف الكل أسبابها التأريخية والحضارية والفنية والسوسيولوجية إلخ لكن غالبما تأخذنا العزة بالإثم... أواصل الكتابة. لا أعرف إذا كانت تجربة جديدة ، ففيها إلتفاتات قوية صوب نصوصك النثرية - الشعرية مع ميل أقوى الى إستخدام تيار الوعي وتقنيات المونتاج. بالطبع ليس فيها شعريتك، أو بالأحرى ليس بذلك الإندياح المألوف عندك.
10.1.2008
قرأت في كتاب هويمار فون ديتفورت ( أطفال الكون ). كتاب باهر مكرس للعلاقة بين الأرض والكون من ناحية ومن أخرى للغز الغريب المسمى بالحياة. كما تعرف ليست هذه بالغريبة فقط بل المفزعة أيضا. هنا إسترجعت ذاكرتي مصداقيتها وتذكرت ما كتبه باسكال في ( الأفكار ) حين تأمل قصر حياته التي ستلتهمها الأبدية ، وهذه كانت قبله وستكون بعده حين تأمل الحيز الضئيل الذي يشغله حتى أنه يبصره ملتحما بفضاءات غير منتهية لا يعرفها وهي لا تعرفه ، داهمه الفزع والدهشة... كان يوماٌ جاءني بدفعة ملموسة كي لا يغمرني الأسف بأنه كان يوما آخر ضائعا...
13.1.2008
لو لقيت الشيوع أحكامك وتصوراتك فيما يخص محنة الفن/ الأدب العراقي - العربي ، ولو بنسبة عشرة بالمائة لحدث في موقفي إنقلاب جذري قدره 180 درجة ، لكني لست من الصنف المتفائل ولا الآخر الذي يغمض عينيه كي لايرى الإعصارات والحمم ، وكلها جنونية. ولو حدث ما يحدث الآن ، قبل نصف قرن لأصابتني عدوى التفاؤل. حينها كان الدين وكل هذه الفوبيات تحت رماد ثقيل ولم توقظها بعد شتى أصناف الأبالسة. بالطبع أنا لا أشكك بنظرتك المستقبلية ، فشمولية الإنترنت وبقية مصنوعات الألكترونيكا هي حاضر دينامي ومرشح للهيمنة الكاملة على قرية المستقبل الألكترونية ، غير أن الإنسان باق على أحلامه السوداء ، فهو من أسماه شبنغلر بالمفترس الروحي الذي يعذب كل شيء ممارسا جبروت العقل ، أو كما يقول إن مصدر كل إختراع تقني هو الحلم الفاوستي بالإنتصار على الرب والعالم... بإختصار أنا لا أثق بمقولة تخلص الإنسان من أدرانه وعوقه في مجالات كالتفكير والأخلاقيات ، فالإحتمال ضعيف للغاية في أن ينتصر تماما على تأريخه وأوهامه لكن هذا لايعني أنه محتوم علينا أن نضيع ، مثل أطفال صغار، في متاهات القنوط القاحل وذاك الإحباط السارتري من نوع ( لافارق هناك إذا قدت الشعوب أو سكرت في حانة ). وأعترف لك بأني ( أبالغ ) بالتفكير بمصائرنا كحيوانات عاقلة إلا أن هذا وغيره لا يحول دون ممارستي صنعتي : الكتابة التي أعاملها كمصدّات الرياح أوالأمواج ...
17.1.2008
لا أعرف أين أنت في مثل هذه الساعة . ربما في ضجر ذاك العمل ، ربما إنصرفت الى الآخر ، آخرنا ... هناك مسرة صغيرة ، ربما كبيرة ، في أن التقويم الدنماركي للسنة الجديدة يغتني بكلمات مأثورة لكييركيغورد. وهكذا صرت أعجل في قراءة الكلمة وقبل رحيل يومها : - في البدء ترقص أنت مع الرغبة ، وهكذا ترقص الرغبة معك. كن واثقا بانه سيصبح رقصا مؤلما. - الإنجيل ليس قانونا ، الإنجيل لا يحررك عند الصرامة ، بل عند الوداعة ، لكن الوداعة هذه ستحررك وسوف لن تخدعك ، ولذلك تكون الغلاظة في ذلك حسب.
17.1.2008
كما لو أن الإبادات اليومية لا تكفي ، فها هم يدبرون جريمة على طراز طالبان : تفجير نصب الحريّة . والنداء الذي أرسلته إليك قبل قليل يوضح الأمر. أبعث بهذه القصائد للشاعر الليتواني ، ويمكنك أن تعاملها ككرسيّ ماتيسيّ بعد نهار متعب...
سيغيتاس بارولسكيس Sigitas Parulskis


الأرض الطاهرة

نقلعُ، نجمعُ البنجر

في الحقل ، أسنان حادة

للتنين

الأب أطعم الخيل

باركََ ، لنركعْ
نركع، ننحني ، البنجر

أكوام ، على الأوراق ندى

على الجذور تزيّط الأرض

في السماء غرانيق
تلمع الأنصال ، الظهور

ترطب ، الأيدي تعبى

في المفاصل شيء يخز

السماء تغيم
محراب أصفر أخضر

يشتعل ، كما الشمعة

تذوب كومة عالية من البنجر

الدموع تطير الى السماء

ليسرج الأب

الخيل ، ولنذهب الى البيت
في الطريق تجاعيد كما في وجه

الأم ويدي الأب

الريح أخذت َتحزّ ، بصعوبة

تدور العجلات في الوحل

الأرض طاهرة كالموت
عام 1994

زمن الجليد

قطعنا الخشب ، ألواح الزريبة

المهّدمة ، ُقرْمات ، كتب ضخمة

لحطب نار عيد الميلاد، صفحة ً بعد صفحة

ومن الجذوع ليفة ً بعد ليفة

و عمُّنا بيده المنشار

، كما القديس أنطون ، ونحن الإثنين أنا والأب

كمعاونين له، على يمينه و شماله

الثلج هطل و إبتلت الأكمام ، ثلج ٌ

من نشارة الخشب

قطعنا كل خشب المستودع ، وجاءت أميّ القديسة حنّه

هبطت من السماء وقالت:

آخذُ سويقا لإشعال النار ،

القديس أنطون ، خذي ما تشائين ،

أنت ترين كم قطعنا ، نعم أرى ،

ضحكت الأم ، ضحك العم ،

ضحك الأب القديس ، و المنشار

أصابه الخرس ، و الحيوانات أخذت تصهل ،

وهدأت مياه البحيرة ،

عندما أخذونا الى السماء
1998


ثقوب

أن تخلق صورة ً : جليد ُ ، وعلى الجليد

يطارد قط فأرة ، تتزحلق قوائم

الجلاد والضحية.

وهذا الجهد الذي يبذلانه

يساويه المصير ، الحمق الأبدي.

أن تنأى عن العذاب ، أن تفوز

وتحشو البطن بالمسرات ، وتطلق النفس حرّةً ،

وفجأة ُتصعَق بإتساع الوجود.

كوكبات النجوم تصب ، عبثا ، السائل المنوي على الأرض.

تريد أنت أن تقول شيئا ؟ قلْ بأنك تحب إلمرأة والجار - لكن المرأة هي

جارك أيضا ،

وأن الكحول يعمل ثقبا في البطن،

وأن المخ هو مجموع أفكار َشبقة.

ها قد تبددت الصورة - ذاب الجليد ،

والجلاد إلتهم الضحية ، والسيل إبتلع الجلاد.

هل بمقدور الله أن ُيحِب – من دون غيرة ؟

أهو قد شفا النفس من الجسدية بالموت ؟

لاشيء هنا. ثقب وزمن حسب.
1998


السرير

في الليل شيءٌ يزحف على جسده العاري

هو مرغم على حكّ جلده والتقلب ، وبألم ٍ

تتمزق البطن والفخذان وما بينهما

من دون إيروسية ينبش

في أعضائه التناسلية الذابلة

وفي النهاية حين يقفز من السرير ويشعل الضوء

ويتفحص الجسد المعروف

والغريب

وكما حصل قبلها لأكثر من مرة

لا يعثر ، ثانية ، على شيء ، لايبصر

أي ّ حشرات ، أيّ عفن ، أيّ جروح

أيّ ديدان ، لاشيء عدا

كفن فراش السرير والمرمي بقرفٍ
ومن الباب حجارة مرمية
عام 1998
* * *
18.1.2008
صدمتني رسالتك حقا. الظاهر أن نقمة عبثية تلاحقك ومعها فترات إستراحة لمجرد الإيهام بأنها قد ولت ... وما يقلقني هو ضياع وقتك بسبب بيروقراطية حمقاء كالعادة. لا أعرف ما أقوله ، رغم أني أعرف جيدا بأنك قد كسبت ما يكفي من المناعة ضد الصدمات المعاشية والأخرى أيضا مما يعينك في أن تواصل عملك الحقيقي. لكن يبقى السؤال الذي لا أريده أن يعكس ولو ذرة من القنوط أوالإحباط : متى ستسمح ظروفك بالوقوف وراء الكاميرا من جديد ؟ أتمنى صادقا أن تنتصر على هذه العقبة الجديدة أيضا... كما تعرف أنا لدي درعي السلحفاتي مما يعينني في مواصلة الكتابة وغيرها ، وما يزيد من صلابة الدرع تلك القناعة المعيشية التي تأتي حين يهرول الزمن صوب نقطته الأخيرة...


20.1.2008
رسالتك أحزنتني كثيرا. كلنا نعرف لعنة المعيشة وأدغال اليومي التي يربض فيها ويقفزمنها أكثر من حيوان مفترس ... لكن قل لي يا حسن ألا تشعر من دون الكتابة بأنك سقطت في فراغ أصم كان رامبو قد ترك الشعر في سن مبكرة جدا ولأنه لم يكن ، وفق قناعته ، لديه المزيد. إلا أن هناك عشرات الأمثلة الأخرى بل المئات التي تشير الى العكس... لا أعرف ، قد يعمل الجو النفسي وحصار تلك المشاكل على التقليل من شأن ( ما ُخلقنا من أجله ). ربما أنا أبالغ. ربما أجد نفسي ضحية للضجر الحقيقي إذا لم أفكر بالأدب والفن وأصدقائي فيهما... أتفق معك بأن الإنسان يشعر بضآلة ٍ ما حين يقرأ ما أنجزه الآخرون وخاصة إذا كان الإنجاز من النوع الفذ والمتجاوب مع المشاعر والمنطلقات. لكن ألا يعني هذا ، ومن جهة أخرى ، محض نموذج ومثال علينا أن نسترشد به من أجل أن نرد بعض الدين لهؤلاء الذين ضحوا من أجلنا نحن بالذات وليس من أجل أولئك ( الآخرين )...


20.1.2008
عدت اليوم الى غومبروفتش - ترجمة مسرحيته ( إيفون أميرة بورغندي ). في الحقيقة كنت قد ترجمت أجزاء منها. آمل أنها غير مترجمة الى العربية. الأمل قوي هنا ، فالعرب ليسوا بحاجة الى أي عبث أجنبي ، فلديهم المزيد من المحلي : الأدبي واللأدبي ...


21.1.2008

نصك جميل حقا. إنها عين فنان حقيقي تلتقط بمثل هذه الحساسية كل الأحداث الكبرى الموت، الحياة الحارة التي غالبما أشبهها بسمكة مشدوهة العينين وتلبط باليدين... في نصك ثمة تكثيف بل إجلال للكلمة. وهنا تذكرني بألبير كامي الذي كان هوسه أن لا ( يزيد ) في الكلام... إنها نثر خارج ، بالطبع من رحم الشعر. وياليتهم عرفوا جلية الأمر : ليس شعرا ، وفق التعريف الشائع ، خارجا من رحم الشعر بل هو ( نثر ) خارج من هناك ... أنا لا أرى أيَّ محذور من التعامل معه كنص سردي. هناك صفحات كثيرة في رواية كامي القصيرة " السقطة " تراوح بين الإعتراف والنفس السردي مثلا.

29.1.2008
قرأت البارحة بحثا شيقا لفيلسوف سلوفيني ( سلافوي شيشيك ) عن جاك لاكان. في الواقع لم يكن عن هذا الفرنسي بل معظم النص مكرس لألفريد هيتشكوك الذي خضع هنا لتفسير غير معهود : واقعي - حداثتي - ما بعد حداثتي ... السلوفيني يحاضر في أكاديمية الفلم اللندنية أيضا. نصوصه غريبة مابعد حداثتية كرس بعضها لوودي ألين وكشيشتوف كييشلوفسكي وآخرين.

2.2.2008

أنا متأثر بل مغتاظ من هذا العالم الذي يستعبدك بهذه الصورة. خشيتي أن يبالغ في جرّك عن ( الهمّ ) الأساسي ويغلق الباب عليك في زاغور الهموم الأخرى. لا أعرف لم تذكرت كلمة همنغوي ( الخبز أفيون الشعوب ) ، ومعها خاتمة أنتوان دي سان - أكزوبري في ( أرض البشر) حين إعترف بأن ما يقض مضجعه ليس موت الأطفال بل موت بيتهوفن وموتسارت آخرين فيهم. لكن ما يخمد غيظي هو وثوقي من أنك باق في موقعك بعد كل التجارب ، القاسية منها وغيرالقاسية ، التي عرفتَ فيها أكثر من حقيقة واحدة من حقائق هذا العالم ...


8.2.2008

أدواردو غاليانو تعجبني أشياء كثيرة فيه ومنه. قبل سنين قرأت روايته الأكثر شهرة ( عروق أميركا اللاتينية المفتوحة ). ما يعجبني فيه أيضا مقته للأميركانزم. أتذكر مقالا له من قبل عام عن الشياطين التي تقض مضاجع الغرب عموما. وقد عدّدها بدءا بالشيطان المسلم ( وهذا تقليد يرجع الى دانتي حين ألقى محمد في الجحيم ...) والأخر هو اليهودي ثم المرأة وبعدها المثلي ويعقبه من تبقى من الهنود الحمر، وفي الأخير جاء الشيطان الأسود : الزنجي. بهذه الصورة كتب وإذا لم تخني الذاكرة. نصوصك ليست عصافير مهلسة ـ كما تقول عنها ـ بل غير مشذبة قليلا. بفضلها أكسب بعض التفاؤل والإيمان بأن الكتابة في العراق قد لاتحتاج الى فترة أطول للبقاء في غرفة الإنعاش...
9.2.2008
أنا أعرف إنشغالاتك المعاشية تلك التي لايعرف بالضبط من خطط لها بكل هذا الخبث. فبدلا عن إلقاء حسن بلاسم على إحدى مصاطب الضجر الكوني كي يحاول التحاور مع مخلوقات غريبة تضاعف فيها كل شيء بدءا بحاسة النظر وإنتهاءا بفعل التبرؤ من كل ما هو أرضي ورباني أيضا... لكن لحسن ٍ دهاءه أيضا : إنه يقيم ، بحكم كونه متآمرا من طراز بريء تماما ، مونولوغات لا تنتهي لكن مع مخلوقات غامضة الجذور وأبالسةٍ وأشباه بشرٍ وآخرين من أمثالي الذين ينجحون تارة في بصق يأسهم بوجه الرب وأنظمته العبثية ، وتارة أخرى يرجعون قانطين الى ( الألعاب الأرضية )...
قرأت نصا ل(ف ) كرّسه ل( شرح ) بعض أبسط الآليات النفسية. لكن ليس هذا موضع الإستغراب بل في أنه لايزال مسحورا بعهود تولستوية وكأن فرويد ويونغ وجويس وسيوران وبقية مهدمي المعابد القديمة هم مجرد ظواهر سرابية أو عصابات تخريب لمملكة الجمال والأدب السعيدة ... أنا واثق تماما من أن ( ف) لا يقرأ لأمثالنا طالما أنه يأخذ بمقولة العصرالوسيط المعروفة : " يوناني لا ُيقرأ "... في الحقيقة أنا دخلت معه ولأكثرمن مرة ، في خلاف حول القضايا الأساسية - جحيم سيوران وكييركيغورد وبافيزه وساباتو وبورخيس والباقين. كان رده الدائم أو بالأحرى نصيحته ( وهي تذكرني بكل مساويء ممتطي أحصنة هزيلة - أحصنة الأخلاقيات ، وهوس الإلتصاق بالآخرين والذي هو في الحقيقة كاذب ومفتعل ولأنه في واقع الحال يأتي توكيدا على ذوات تعاني من الإنحراف أو التصنع ) : " ينبغي أن لاننسى الآخرين " ... وهنا لابد من الرجوع الى تحليل سارتر لظاهرة الحب : العاشق لايريد أن يفنى بمعشوقته بل أن يغنم مساحة جديدة لأناه ، أن يوسع هيمنته...
11.2.2008
ما تقوله عن قصصي صائب في كل مرة. في الحقيقة ليس الغرض هنا إيقاظ غرائز ومشاعر معينة بل هزّ النائمين ( وأعترف بأنه غرض فوق طاقتي ) : كي يبصر بعضهم - وليس كلهم فهذا خامس المستحيلات وليس رابعها - الوجود والحياة التي هي ظاهرته الأكثر قسوة ولأنها تعني هذا الجسد الفاني وهذا العقل المعوَّق ، تحت ضوء آخر ، ضوء الإحتمالات والتكهنات ومن ثم كي يثقب السؤال الرؤوس : لماذاالإنسان ولماذا العالم ولماذا كل هذه التعاريف البائسة التي ُدقت مثل مسامير علاها الصدأ ، للعوالم الصغيرة منها والكبيرة ؟ أعترف أيضا بأن هذا هو مسعى بالغ الطموح الى درجة أنه يصبح مضحكا أو مثارا السخرية ! يحفر فيّ أيضا هذا الإفناء اليومي للعراق. ونص مثل نصك ( شكو ماكو ) أجده التعبير والتصوير المناسبين أكثر من غيرهما - من مقالات و قصص مازوكية لا تقدم شيئا غيرالتشبه بالزناجيل والقامات والدماء التي تسيل عبثا. منذ يومين أنبش في الموضوع - الهاجس : ظاهراتية وجودنا ولماذا نحن بأبعاد ثلاثة وليس إثنين مثلا ( وكما في رواية الكاتب الإنكليزي أدوين آبوت آبوت : " فلاتلاند " - بلاد المُسَّطحين. ولا أعرف هل هي مترجمة الى العربية. في الواقع هي لا تبتعد كثيرا عن جوهرة الأدب الإنكليزي " رحلات غوليفر " ). ومن جديد وصلتُ الى يونغ في كتابه الفذ ( ذكريات ، أحلام ، أفكار ). تحصل لدي بلبلة : هل أن ما أكتبه هو محض هضم ، وقد يكون عسيرا ! ، لما تكرس له الاخرون ؟ في الحقيقة أنا راض بهذا الدور البسيط في هذه التمثيلية المعقدة ! المهم إفراغ التفاعلات الداخلية...
12.2.2008
رحل التكرلي . وبذلك خبا ذلك اللهب القديم الذي كان قد توهج في الخمسينات وتصاعد بعدها ثم جاء ( الواقع الجديد ) الذي لا يعرف الرحمة ، والشبيه بكاسحات الألغام أو كاسحات ثلوج طرق الشمال. لكن علينا أن نكون عادلين ونعطي لكل حقه. كان فؤاد قد زرع شتلته لكن ما يدهشني أنه كان على ثقة من أنها ستتبرعم وتشب في أرض يباب سرقت قرون طويلة خصبها... أعترف بأن كآبة قاسية لاحقتني طوال النهار وأصابتني بالشلل. لم أقدر على الكتابة...
19.2.2008
وجاء رحيل آخر. ألان روب - غرييه ودعنا بالأمس... في الرأس دار شريط من الذكريات عن هذا الكاتب والسيناريست والمخرج غير الإعتيادي ( أذكر أن الصدمة كانت كبيرة عندما شاهدت فلم ألان رينيه " العام الماضي في مارينباد " والذي كتب روب – غرييه سيناريوه ) . لا أتذكر من قارن رواية روب – غرييه بصندوق متعدد القعور. ف( المماحي ) مثلا هي ، ظاهريا حسب ، ذات حبكة بوليسية بينما تكون في الحقيقة إيغالا في التحليل النفسي والأسطورة والفلسفة. وكل هذه الإحالات تختلط فيما بينها لكنها تدفع أيضا تلك الحبكة الى الأمام. وكما تعرف بدد غرييه أسطورة معينة عن الزمن الذي إعتدنا على التعامل معه خطيا ، ففي هذه الرواية ( سرد ) لأجزاء من الثانية التي تفصل بين الضغط على الزناد وإختراق الرصاصة للجسد ، أي الزمن الذي كانت الرصاصة بحاجة إليه كي تصل الى هناك ( المسافة كانت ثلاثة أو أربعة أمتار ). لكن الزمن الفعلي كان 24 ساعة ، زمن ذلك الرجل الذي حوّله غرييه الى أوديب لكن ليس ذاك اليوناني تماما بل منحه ظلالا خفيفة من السخرية والباروديا. الكل تقريبا يعترفون بأن الرواية الجديدة ( وكانت تسمى في البدء ، في الخمسينات : ضد الرواية. وإذا لم تخني الذاكرة ألصق بها الإسم الآخر في عام 1957 ) هي تجربة كبيرة في ميدان الشكل بل ثورة راديكالية : نبذ شخصية الراوية العليم بكل شيء ، إنعدام إستمرارية الزمن ، إختصار الحكاية أوالقصة الى الحد الأدنى ، رسم بالغ الضعف للخلفية الإجتماعية ، التأريخية إلخ ، ذاتية الوصف - هنا نبذت تماما مباديء المحاكاة. ولدى غرييه خاصة ليس هناك من تعليقات ذات طبيعة سايكولوجية أوأخلاقية. رغم صعود هذه الرواية السريع وإنحسار مدها في الستينات لا أحد ينكر بأنها جاءت للنثر بعناصر جديدة ، ولأذكرُ أيضا الدقة الرياضية في بنية العمل الأدبي أو ما إستعير من تقنية التسجيل الفلمي : المقطع الروائي أوالقصصي يذكر تماما بلقطة الكاميرا. كانت قد سحرتني روايته ( الستائر ) أو ( الغيرة ) / الكلمة تحمل معنيين بالفرنسية / وهي تعد أفضل عمل جاءت به الرواية الجديدة. وأذكر أن ساباتو لم يعجبه الكثير في ( الرواية الجديدة ). لا أعرف السبب بالضبط ، لكن الأكيد أنه كان ينفر من نزعتها الدوغمائية. وكان هنا محقا. فكتاب هذه الرواية كانوا يتصرفون كنشطاء أيدولوجيين... على أي حال فرحيل روب - غرييه خسارة أخرى جاءنا بها هذا الشهر المحروم ، لغاية الآن ، من أيّ لون زاه ٍ ...
20.2.2008
تمتعت مرة أخرى بقراءة نصك ( النفق والهذيان ). هذا النص - النافورة التي تقذف اللعنات في كل الجهات ، يزاحم كاتبه الرب كي يسطو علي إمتيازه في إنزال اللعنات... النص يذكرني بنهج فرنسيس بونغ الشاعر الفرنسي الذي عاش عقود كثيرة من القرن العشرين. هناك بعض المنصفين الذين يعترفون بفضله على الرواية الجديدة ، لكن لم يذكرني بنصك ؟ لأنه قال مرة بأن الشعر كف في هذا الزمن عن أن يكون شعرا، وكان يقصد شعر البيت والقصيدة وكامل ذلك البناء. أنت تكتب مثله : تنثر شاعرا وتشعر ناثرا. وقد تكون صدفة أني كنت أقرأه قبل أيام حين أضع رأسي على الوسادة وأمسك بكتاب يعينني عند إجتياز نفق النوم صوب واحد من سهول أوغابات الاحلام. بونغ ينضح بيولوجية ً ، وهو يعترف للأشياء بوجود مستقل تماما، وولعه بالتفاصيل ولع عالم مختبرات ، وفي توصيفاته المكتظة بالتفاصيل والمموضعة يحوّل الحيّ والجماد الى أرباب للكون. لم يكتب القصائد بل نصوصا نثرية عن البرتقالة والسيجارة والخبز والنار والحلزون والطحلب. كان قد نبذ السوريالية وإنهمك في فحص اللغة كما لو أنها جثة تنتظر التشريح الطبي. إنه شاعر مأخوذ بالوجود كما هو...
21.2.2008
ألبي رغبتك في التعرف ، ولو قليلا ، على إبداع فرنسيس بونغ. إنه شاعر صعب. ولا أظن أن هناك ترجمة تفيه حقه ولكن ... :
فرنسيس بونغ Francis Ponge ( 1898 -1988 )
النار
النار ُتدخِل النظام : في البدء تمضي اللهب كلها بإتجاه واحد... ( مسيرة النار يمكن مقارنتها فقط بمسيرة الحيوانات : كي تشغل مكانا واحدا ينبغي قبلها التحرك المتزامن كماالأميبا وكما الزرافة – إبراز العنق ، جرجرة السيقان ) ...

بعدها حين تصير ، طرائقيا ً ، الكتلة المصابة بالعدوى ، خرابا ً ، تتحول الغازات الخارجة منها تدريجيا ً الى مرسى للفراشات.
عام 1936

السيجارة
في البدء ننقاد الى الجو : الضبابية ، الجفاف والسحابية في آن واحد ، الجو الذي تصنعه ، من دون لحظة إنقطاع ، السيجارة التي ترقد مائلة قليلا.
بعدها ننقاد الى هيئة ٍ : صغيرة ، هي بالأحرى ذات رائحة أكثر من كونها مشعلا تنفصل عنه ، في إيقاع معيّن ، تجمعاتٌ من الرماد ليست بالكبيرة وبمقادير يمكن حسابها.
في الختام هناك الهوى : قطعة ُمجَمَّرة في هالة من رقاقات فضية تتشظى تدريجيا. عام 1936


قطعة لحم
كل قطعة لحم هي ُمنشأة ، توربينات ومضخات دم. أنابيب ، أفران ، مباخر ، وعلى الجانب مرئية ٌ معاصرٌ ميكانيكية وكتلُ شحم ٍ. ينفث بخارٌ فائر. تتلامع نيران هي قاتمة مرة وفي أخرى ساطعة. تحت سماء مفتوحة تحمل تيارات ٌ أنسجة ميتة مخضبة بالصفراء. كل شيء يبرد ، ببطء ، في الليل، في الموت. وها أنه ينشأ صدأ ، أوعمليات كيميائية أخرى تبعث رائحة كريهة.
عام 1942

24.2.2008
أنا أعتبر نصك ( النفق و الهذيان ) نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه ما يسمى بالأدب العراقي على حد تعبيرك مرة. أنا قانع ومغتبط من ظهور نصك في الموقع ، وإذا إمتعض أوإستعاذ بالله هذا الجحفل المتخشب والمرائي من الفريسيين فلا ينتظره منا غير ( طز ) بحجم بالونه الأخلاقي المنفوخ بالهواء الفاسد لاغير... نحن نكتب أيها العزيز للقراء الحقيقيين فقط ، أما عددهم فأنت ذكرتني ولأكثر من مرة كيف أهمل أوكتافيو باث العدد هنا ... أهنئك من جديد على هذا النص خاصة أنك لم تنبذ في نشره نصيحة المسيح عن عدم إلقاء اللاليء تحت أقدام الخنازير... رحت اليوم مع مسوّدات قصة جديدة . أظنها ستكون رحلة حلمية أخرى. ما العمل إذا كنت مجبولا على ( خيانة ) الواقع الذي أسميته أنت مرة بالأليف - بالطبع كان وصفك له مجازيا ، ولربما كان أليفا لو لم ينس الله نزع الأنياب والمخالب عنه...

ليست هناك تعليقات: