الثلاثاء، 1 أبريل 2008

غريزة المونتاج في الفيلم القصير







(الفيلم هو حياةٌ أُزيلت عنها لطخات الضجر) ـ هيتشكوك ـ

يحتاج الفيلم القصير إلى تراكيب صارمة جداً ......

هذا ما كان يؤكد عليه (رومان بولانسكي) في حوار صحفي، وكان يصرّ في حديثه على أن تكون هذه التراكيب أكثر من صارمة, إذّ يرى ( (بولانكسي)، أنه لو كان بالإمكان العثور على فجوات, أو خلل ما في بناء مشاهد الفيلم الروائي، فهي فجوات يمكن الغفران لها, والتسامح معها، لكن مع الفيلم القصير ليس هناك من إستسهال مع كل لحظة تمرّ على الشاشة, وإن كان (هيتشكوك) يتحدث عن(الضجر) بشكل عام حول مختلف الأنواع السينمائية, يمكننا الحديث هنا عن خطورة هذا ( الضجر) إذا ما تسلل إلى جسد الفيلم القصير, إذّ لا ذرائع أمام هذا الشكل السينمائي فيما يخصّ الفجوات, أو الترهل, أو حتى ( ضجر هيتشكوك)، أنّى كانت هيئة هذا الضجر.

يرى البعض, بأن كتابة سيناريو تفصيلي, ودقيق للفيلم القصير, لا يحتل أهميةً كبيرةً بالنسبة لصانع الفيلم, حيث يمكن تدوين بعض الملاحظات الضرورية, والتصورات لطريقة إنجاز (الفيلم), وهذا أسلوب عمل يمكننا إعتماده، ولا يمكننا بالطبع نفيه, أو الوقوف ضده، وهو ما تفرضه في كثير من الأحيان طبيعة العمل من ناحية الشكل, أو المدة الزمنية التي يستغرقها الفيلم على الشاشة, فقد يرى البعض أن (دقيقة سينمائية) ليست بحاجة إلى خطة, وسيناريو، بقدر ماهي بحاجة إلى تدوين الفكرة الأساسية, والتي قد لا تستغرق على الورق سوى : مسافة سطر !! لكن, ربما يجد البعض الآخر، أن الأمر يكون مختلفاً مع الفيلم القصير الذي قد يستغرق 30 دقيقة, أو أقل, أو أكثر بقليل، فهو غالباً ما يكون بحاجة إلى سيناريو أدبي, أو حتى تنفيذي، أو كلاهما معاً, مع ذلك, يبقى هناك من لا يُحبذ في كل الأحوال أيّ سيناريو دقيق، مهما كانت المدة الزمنية للفيلم القصير.

في الحقيقة, إن كل محاولة من قبل المخيلة تكون بحاجة إلى خطة دقيقة, فالمخيلة هي تأثيث الزمن قبل كل شيئ، بكل ما تحمله من أفكار, وصور وفق آلياتها الحلمية, فحتى ما نسميه ( فيلماً تجريبياً)، هو بحاجة إلى تشييد, وبناء محكم, وإن لم يكن هذا البناء قد إكتمل في المخيلة، فيجب على الأقل الإنتهاء منه داخل الورق قبل عبوره إلى الشاشة.

العشوائية التي يختبئ البعض خلفها بحجة التجريب، هي التي تتسبب في الغالب بشرخ هذا الشكل الإبداعي, وتركه مجرد ثرثرة متواصلة من الصور التي لا تؤدي ..!!، وقد يُحاجج البعض بأن ( صوره) هي مجرد تناغمات دلالية على المتلقي أن يشكلها, أو يعثر عليها في ( مخيلته), وهذه ذرائع (سئمنا) منها, وقد تسربت إلى السينما عن طريق النظريات النقدية للرسم, والأدب، وتمكنت السينما من خلال تجارب عديدة خلال رحلتها في تأسيس البعض من مثل هذه المفاهيم, والدوران حولها, لا نريد الوقوف بوجه (حرية) المبدع التي غالبا ما يكبلها بيديه من خلال الفوضى(لأن العقم في الصورة لا يمكن إعتباره دلالات، لا يمكن لعبقري أن يحلّ مغزاها).

الورق, أو شاشة الكمبيوتر التي يستخدمها اليوم أغلب كتاب السيناريو ـ هو مختبر المخيلة الذي لا يمكن الإستغناء عنه بسهولة, والتجريب ليس مجرد هلوسة، فحتى الهذيان هو قصيدة لا يمكن إنجازها إلا من خلال قوانين الفزع, والحلم .

ولنتأمل على سبيل المثال، لمَ نحن نتعمد في كثير من الأحيان العثور على غطاء شرعي لما ننجزه من تجارب سينمائية من خلال إستعارة بعض الأوعية الإبداعية الأخرى, نتحدث مثلاً عن قصيدة (الهايكو) مقابل ما نسميه (الفيلم القصير جداً), إن اللجوء إلى قصيدة (الهايكو) ماهو إلا دليل لحاجتنا الماسة إلى أسّس نرتكز إليها بعيداً عن الفوضى, والعشوائية, فقصيدة(الهايكو) هي شكل من أشكال الإبداع الشعري التي تستند إلى نظام, وأسلوب له غاياته الدقيقة, وهو خطة شعرية محكمة لبلوغ أقصى درجات الجمال في إقتناص اللحظة الحياتية عن طريق تكثيف (الصور) المُكتظة بالأحاسيس.

الفيلم القصير بحاجة إلى الكثير من الحذر كي يبلغ ذروته الإبداعية, وكلما قصر زمن الفيلم القصير، كان بأمسّ الحاجة إلى ما أُسميه (غريزة المونتاج), سواء كنت قد بدأت بكتابة الصور في المخيلة, أو على الورق, أو وصلت إلى الكتابة بعدسة الكاميرا, إنها( شاعرية الإفلات) التي يملكها الشاعر في تشذيب قصيدته من ( لطخات الضجر), لكنها(غريزة) بحاجة إلى تمرين متواصل لصقلها, وتركها أداة طيّعة يمكن من خلالها بناء حلم سينمائي قصير, وكأنه نسيج لا يمكن تجزأته.

إن الفراغات, والفجوات في الفيلم القصير هي في الأغلب تلك اللقطات التي زحفت أكثر, أو أقل من إطاراتها المحددة لها, وبدت أطرافها إما ملتصقة بما يجاروها من لقطات، أو كأنها لقطة قزمية داخل الإطار الذي من المُفترض أن يكون قد فُصل على مقاسها, إنها عملية مونتاجية بحتة، تتم قبل كل شيئ داخل المخيلة، وأن لا يسمح لها فيما بعد أن تزحف أثناء عملية تصوير الفيلم بطريقة منفلتة, فعملية المونتاج الأخيرة التي تتمّ بعد الإنتهاء من التصوير لا يمكنها أن تكون لوحدها، تلك الضربة السحرية الخلاقة، أو أن تُسعف ( لقطاتنا) بأنفاس ليست بحوزتها, فهذا التشذيب الأخير سيبدو مختلقاً, ومربكاً إن لم تكن (اللقطات) قد خُطط لها, وأنجزت قبل عملية التصوير بدراية, وتركيز، والتي بحاجة إلى تلك المراقبة التي أشرت إليها، وتطوير القابلية على التحكم بـ( غريزة المونتاج) .

إن قصة رجل ( يموت) في دقيقة سينمائية، هي من الضجر, والإثارة في نفس الوقت, فإن كان الرجل ـ على سبيل المثال ـ يموت فوق سرير مستشفى نظيفة, فأنت بحاجة إلى توقيت ساعة( المونتاج الغريزية) بحذر, والتي ترتكز إلى ثلاثة مفاصل أساسية، إضافة إلى كل مفردات اللغة السينمائية الأخرى، وهذه المفاصل الأساسية يمكن لها أن تتحكم بالإيقاع بمرونة عالية :

ـ المدة الزمنية التي ستستغرقها اللقطة الواحدة.

ـ إختيار فحوى اللقطة التالية( وهي التي تشكل نقطة الإرتكاز لما نسيمه : بغريزة المونتاج).

ـ الزوايا, وحجم اللقطة.

إن لقطة أكثر من اللازم لنظرة الرجل المُفزعة، والتي يوجهها لسقف غرفة إحتضاره، لا يمكن أن يعوّل عليها كثيراً إن لم تكن محسوبة، إن كل ثانية تمرّ، هي الرجل يموت، فكم لقطة تلزمنا لخنق الرجل، وماهي مدتها الزمنية على الشاشة. أما مفصل المجازفة في (غريزة المونتاج)، هو تلك القدرة على الحسّ بجدوى, وشرعية, وجمالية اللقطة الأخرى التي سننتقل إليها, وهي القدرة الأكثر عمقاً فيما يتعلق بحسّ الإفلات الشعري من سطوة الدلالات التي تتكدس بسرعة فائقة داخل اللقطة الواحدة, هي عملية مراقبة صارمة, وحادة لما للصورة السينمائية من فائض دلالي, وجمالي في أغلب الأحيان :

ربما ستنتقل إلى أصابع يدّ الرجل التي يهزها الآن ببطئ من دون سبب واضح, أو ربما هي إيماءة ذعر, أو أنك ستذهب إلى جاره المريض الذي يقضم تفاحته الآن بسعادة, أو أنك ستقفز إلى الممرضة في غرفتها, وهي تستلّ قطعة لحم صغيرة بعود تنظيف الأسنان, إلى أين ستنتقل !!، ربما مؤخرة طبيبة في الممر, منظف يمسح الزجاج, هل ستعود الآن مرة أخرى إلى نظرة الرجل, أم إلى زاوية شفتيه !! (قد تكون أصابع المُحتضر هي توأماً لنظرته، لهذا لا يمكن الإنتقال من الأصابع إلى النظرة، فهذا ما نسميه إنعدام الحسّ المونتاجي، إنه تكرار خفيّ لا يمكن الشعور به، لكنه تكرار قاتل للبناء الصوري).

إنها خيارات مفتوحة للدوران حول رجل ( يموت)، لكنها خيارات لن يمكنها أن تؤدي رعباً, أو سخرية من دون القدرة على الحسّ بتسلسل ( الجملة الصورية المتحركة), والتي لن تتحقق إلاّ إن كنت قد تمكنت من السيطرة على ساعة (المونتاج الغريزية) التي ستحدد مؤشر البوصلة, فالذهاب إلى غرفة المحتضر، وإرتجال (موته)، لن يؤدي إلا للمزيد من الضجر, وضياع فرصة القبض على تفاصيل الموت المُثمرة !!

والمفصل الثالث الأساسي، هو إختيار الزاوية, وحجم اللقطة، الذي يمكن له أن يدعم نظرة (الموت) بالكثير من جماليات, ودلالات الصورة، كي تأخذ مسارها بدقة, ويمكننا بالطبع ( قتل) الرجل بلقطة واحدة طويلة, حتى إن كان فيلمنا هو دقيقة سينمائية, أو دقائق, وهذا لا يختلف عما أشرنا إليه حول الحسّ المونتاجي, فكما نعرف, يمكن للقطة واحدة أن تتحرك, وتغير وجهة نظرها, وحجمها, وزاويتها كيفما تشاء.

غالباً ما نسمع, ونقرأ النقاد حين يتناولون قصيدة لشاعر، وهم يقولون : ( إنها قصيدة رائعة، لا يمكن رفع كلمة واحدة منها), وفي أمثلة كثيرة, سنجد نقاداً يطبقون هذا الإحتفال على الرواية أيضاً، طبعاً في حالة الرواية تكون آراء النقاد في الأغلب هي مجرد مبالغات شعرية مفضوحة, في السينما، وبالتحديد في الفيلم القصير, يمكن تطبيق آراء النقاد فيما يخصّ القصيدة من دون تردد, ففيلم قصير هو سبيكة من الصور الشعرية المتحركة، التي لا يمكن رفع صورة واحدة منها، من دون أن يُصاب هذا المُنجز الإبداعي بخلل, أو إهتزاز في أخلاقه الجمالية.

والغرائز يمكن خلقها بإستمرار، وهي ليست حكرا على الصدفة المانحة !!

ليست هناك تعليقات: