الثلاثاء، 1 أبريل 2008

السينما التي أكلتها شاحنة الزمن





المشهد : اسطنبول ـ نهاية 2000


مثل جرذ مخطط بالأبيض والأسود كنت اتأمل ملصقات الافلام في مدخل صالات السينما ، وكنت اتلفت مذعورا خشية ان تمسك بي الشرطة التركية وتبعدني الى عراق الديكتاتور ايام كان تمثاله القبيح يخنق ساحة الفردوس. البارحة كانت هناك كبسة كبيرة من قبل الشرطة في حي ( كشك بازار) راحت ضحيتها وجبة دسمة من العراقيين( الهجرة غير الشرعية). هم الآن في سجن التسفيرات. سيرمى بهم مثل كومة من الأزبال الى مدينة اربيل. الله وحده يعلم ماذا سيحل بهم. هذا اذ لم يقايضهم( مسعود البرزاني) ببعض الأسلحة مع جيش السفاح.


دخلت الى مقهى السينما، وكان هنالك فيلم واحد مميز لـ ( اوليفر ستون) اشتريت قهوة صغيرة وجلست. مازال لدي ثلاثة سجائر ونصف. لا داعي للقلق في ما يخص السجائر. الرصيف علبة عملاقة من اعقاب السجائر. حاولت ان لا احك جلدي. لكني احسها تحبو ببطء فوق بطني.اخشى ان تدخل سرتي. هي ( التختة قرص) وهي ببساطة لمن لايعرفها : قملة الخشب. حي ( كشك بازار) الذي كنا نقطن فيه هو عبارة عن اكواخ اسطورية من الخشب المتعفن وسط الجزء القذر من اسطنبول. كنا نهرش طوال الليل والنهار. ولو فتحتم جلد أحد الذين يعيشون في هذه المعلبات الخشبية. لعثروا على جلد ماعز بمئات الثقوب من اسنان ( التختة قرص) . كنت قد شاهدت فيلم ( الاستدارة) انا (وعدي رشيد) في بغداد منذ سنوات واتفقنا على روعة الفيلم. فكرة وحشية عن رعب المأزق . كانت السينما عبارة عن مجمع كبير يضم اكثر من صالة. في الشاشة الألكترونية فيلم ( ستون) يعرض في صالة رقم 7 . الجمهور بدأ يتوجه الى الصالة. ما زالت هناك خمس دقائق. فكرت ان اشعل سجارة. لكنني اكتفيت بتخزين بعض الصور الفوتغرافية السريعة لمؤخرة فتاة في مخيلتي. صور لجوع وحشة الليل. يبدو ان الفيلم قد بدأ. وبينما الجمهور في الصالة ، ينعم الآن بمشاهدة تايتل الفيلم. اترك انا المجمع السينمائي متخيلا لون كراسي الصالة التي يغوص فيها الجمهور، وذلك الشعاع الالهي الذي يروي الشاشة حتى تنبت فيها حيوات من كل صنف. لقد مرت ثلاث سنوات منذ ان جلست اخر مرة في صالة سينمائية حقيقة. حين مررت بالقرب من المركز الثقافي الفرنسي تحسست جيبي للأطمان على الليرات التركية المتبقية لعشاء اليوم. صمونة تركية كبيرة وكيلو من الطماطم. الملح يمكن طلبه من ( فالي) الرومانية التي تسكن في الغرفة المجاورة. تبيع جسدها في النهار، وفي الليل تلعب مع صديقها الغجري (البوكر) ثم يتشاجران وتبدأ حفلة الصراخ. الى ان نتدخل ونتوسل ب ( فالي) ، لأن الغجري يكون قد جن من فرط الكحول.

: ارجوك ( فالي) ستصل الشرطة ونضيع جميعا .......

وانا اذرع شارع ( الاستقلال). حاولت ان اتذكر مشاهد فيلم ( الاستدارة). كانت هناك مصطبة قرب ساحة الطيور. رغم ان الجلوس في وضح النهار مغامرة لاتحمد عواقبها. صيد مريح لشرطة اسطنبول الحمقى. لكن المكان كان يعج بالسياح الذين يطعمون الطيور. السياح عادة يكونون درع التخفي المفضل لدي في الشوارع وانا المهاجر غير الشرعي . جميلة هذه غير الشرعي . يعني : لقيط !! . وهذا المهنة تناسبني أكثر من غيرها . تخيلت من قبل ان مهنتي الحقيقة : شاعر. ( ها ها ها..) يالها من مهنة مضحكة. واصدقائي يظنون انني حلمت بالسينما اولا. هم لا يعرفون قصة القصائد التي كتبتها واعدتها الى بالوعة البيت.

فوق المصطبة، ولأن الذاكرة تعمل بطريقة منفلتة ومرات كثيرة مثل ارهابي أحول، وجدت نفسي أبتسم وانا اتذكر تجربتي الفنتازية في السليمانية. كانت مديرية الثقافة في المدينة قد عرضت علي ان اقوم بالقاء بعض المحاضرات عن السينما بشكل عام. بعد ان انتهيت من تجربتي في تدريس بعض الشباب في احد المراكز المخصصة لهم. وفعلا اعلنت المديرية عن دورتها المكثفة في الصحف والتلفزيون وان الدورة ستكون مخصصة لكل الأعمار والاختصاصات بشكل عام من دون قيد او شرط. وهكذا وجدت نفسي امام مجموعة كبيرة وغير متجانسة من المستمعين والطلاب. منهم من هو طالب في معهد الفنون يدرس الفن التشكيلي ومنهم من هو سائق تاكسي جاء بدافع الفضول او ربما لحلم طمرته السنوات ، ومنهم من هو في عمر الخمسين، وايضا هناك من لم يتجاوز بعد السادسة عشرة من عمره. ومن كلا الجنسين. مع ذلك كانت تجربة جميلة وغريبة وصعبة في آن. لا أريد التحدث عن المفارقات العديدة والعلاقات الأنسانية النادرة التي اوثقتني بهؤلاء الناس الذين دفعهم حبهم للشاشة السحرية إلى ان يجتمعوا في هذه القاعة وان يقتطعوا من ايام حياتهم ساعة من الزمن. لعلهم في هذه الساعة يعرفون شيئا عن الحياة التي تتحقق هذا السحر في الشاشة. بقدر ما اريد ان اشير الى احد الطلاب وهو رجل على مشارف الستين من عمره. يدعى ( كمال). كان يجلس طوال الثلاثة اشهر المخصصة للدورة في الصف الاخير. وكانت قاعة المحاضرات عبارة عن صالة مسرح. . على الخشبة كنت اضع كاميرا فيديو وتلفزيوناً صغيراً. وكانت هنالك ثلاثة كراس. كنت اعلمهم بعض اللقطات. واوزع الادوار بينهم. البعض يجلس كممثل واخر كمصور وآخر صاحب فكرة واحدهم (مخرج). وهكذا ، مجرد تجارب بيسطة. لكنك لم تتخيل مقدار سعادتهم وهم يشاهدون لقطاتهم وانفسهم في شاشة التلفزيون. هؤلاء الناس انفسهم يصلحون لفكرة فيلم . فكرة عن الاحلام المسكينة. في بعض الأحيان كنت اقوم بنفسي بتوزيع المهام. ومرات اترك لهم حرية المشاركة. كل هذا والعجوز ( كمال) في الصف الأخير لا يساهم لا في نقاش ولا في التجارب العملية التي كنا ننجزها على خشبة المسرح. وبالطبع كنت اتردد في معرفة السبب او أن أطلب منه المشاركة في التجارب والصعود الى خشبة المسرح ، فهو رجل كبير في السن واشعر بالخجل منه، وهكذا مرت ايام الدورة السينمائية ومن دون ان اشاهده مرة يتحدث لأي من الطلاب او يساهم في حوار. وكنت الاحظ أنه يجلب معه في كل مرة ثلاثة دفاتر صغيرة لكنه لم يكن يسجل ملاحظة او يكتب درسا.


الان وانا اشاهد طيور الساحة اشعر بفزع مر. اتخيل ان الطيور تنقر من مخي كل ما يمكنني هو الحفاظ على قدرتي في الاستمرار بعيدا عن الجنون. الان فقط اعرف ان العجوز ( كمال) هو شبح الرعب الذي طاردني منذ ان ألتقيته. وعرفت ان قدري سيكون نسخة مخلصة من قدره. هذه الساحة هي ( استدارة ستون) وهذه الطيور التي بدأت بنزع اشكالها البريئة واخذت تنبت لها أنياب طويلة بدل المناقير، بعد قليل ستهاجم كما طيور ( هتشكوك)، انا متأكد من ذلك. كان علي ان اجد خطة ما للخلاص من شبح ( كمال) لئلا تتحول الساحة برمتها الى مصيدة من الفزع. قبل ان أفر ،كان هناك عقب سجارة طويل أسفل المصطبة، حملته وانطلقت صوب البحر. كان السياح يتجمهرون حول مراكب بيع سندويشات السمك على حافة الماء. اشعلت عقب السجارة وأحسست بمرارته . ربما دخنه شاعر مريض أو مخنث من مخنثي شارع ( الاستقلال)، كان هؤلاء أطيب الكائنات في التعامل معي في اسطنبول. واحد منهم عرض علي ان اعمل في صالون للحلاقة خاص بهم. لكنني ترددت حين فهمت انه علي ان اقدم خدمات اخرى للزبائن غير الكنس وغسل الرؤوس. أخذ لعابي يسيل وانا اراقب عجوزاً المانية تحتسي البيرة مع السمك. كانت تمضغ وكانها تمارس الجنس. ربما علي ان اوافق على عرض صالون الحلاقة. كل يوم ألمس مؤخرة زبون مقابل قننية عرق كاملة ومبلغ من المال يكفي لثلاث وجبات دسمة. وربما اتمكن من شراء ملابس سائح انيقة. وهي تساعد على التخفي جيدا عن كلاب الصيد/ الشرطة.

لكن شبح ( كمال) كان قد أجبرني اخيرا على البكاء هذه المرة. كنت انظر الى البحر وكأنني ارآه من خلال نافذة تغرق بالمطر. بكاء.. بكاء.. بكاء ، كل ما يمكن فعله لحظة انشطار الكائن الى نصفين من العذاب.كان صديقي ( خضير ميري) يقول : ( الكائن نصفه حلم ، والآخر مرحاض)

قبل ان تنتهي دورة السينما بثلاثة ايام ، غامرت في سؤال العجوز ( كمال)، ان يتقدم الى خشبة المسرح ويحاول ان ينجز لقطة قريبة. لكن الطلاب اخذوا يتهامسون وينظرون لبعضهم البعض بخجل. اما هو فقد كان ينظر الي ودموعه تشبه نافذة البحر الممطرة. أحسست بالارباك. بعد ان كررت طلبي ولم يخرج سوى المزيد من الصمت والتردد في القاعة.

نهضت ( ئاواز) من الصف الأول وهي اصغر الطلاب او بالأحرى هي تدرس الرسم في معهد الفنون. اقتربت وهمست في اذني.

ئاواز : استاذ ئازاد .. كمال ... اصم !

كمال... اصم !!!

ما الذي يفعله هنا اذا. اي فائدة من محاضرة عن السينما. لا اصدق. ما الذي تقولينه. لكن حكايته كانت قد تكشفت لي بعد انتهاء المحاضرة. روت لي ( ئاواز) حكايته. حين كان كمال في سنوات السبعينيات يحلم في انجاز الافلام. قبل ان يتعرض الى حادث مشؤوم. ثم مرت الأيام والأشهر والسنوات فوقه مثل شاحنة يقودها سفاح سكير. الى ان وصلت اشلاء ( كمال) الى قاعة المحاضرات العجيبة هذه.

في اليوم الأخير من الدورة. تحدثت معه. او حدثني هو بالإشارات واطلعني على ثلاثة دفاتر صغيرة. اوراقها ذابلة وقد ساح فوقها حبر أزرق وتعرضت لعصف ريح شديدة. كانت الدفاتر عبارة عن توثيق لكل فيلم شاهده في تلك السنوات. دون اسم كل فيلم ومخرجه وكاتب السيناريو واسم المنتج والشركة والمساعدين. بل كل اسماء المساهمين في الافلام التي جاءت في التايتل.

أرشيف احلامه التي داست عليها شاحنة الزمن بسرعة جنونية موجعة !!

أحسست بحاجة ملحة للتقيؤ او الأختفاء وانا اتخيل مصيري نسخة مكررة تحت عجلات الشاحنة. بل انني علي يقين من مصيري النسخة. السينما ستتحول بالنسبة لي، الى دفاتر عصفت بها الريح. فكرت في العودة الى الساحة ومنح طيور هتشكوك كل حبة مازالت تتقد في مخي الذي يدمع الان. لكن البحر كان اروع . ويمكن معاودة الهذيان وكتابة قصيدة الى البالوعة بدل السينما التي أكلتها الشاحنة.


كادر

1 لم اعد اتذكر ماهو الحادث الذي تعرض له ( كمال) بالتحديد ، اوانهم لم يخبروني بذلك حينها


ليست هناك تعليقات: