الاثنين، 31 مارس 2008

السينما ليست قلادة إمتياز







كلما قرأت كتابا أو قصيدة أو رواية حقيقية شعرت بالأسف على حال السينما. فمنذ ولادة هذا الفن ونحن نقرأ ونسمع خطب المبشرين بلغة الصور المرئية المتحركة سواء تلك التي تصدر عن نقاد السينما وهم يبشرون بلغة العصر السحرية أو عن السينمائيين أنفسهم ، وحتى عن الكثير من الأدباء والفنانين الذين لم يترددوا في التنبوء بأنحسار سحر المكتوب لصالح الصور المرئية المتحركة ( وأنا كنت أحدهم). لكن هاهي السينما تتجه ، في اغلب نتاجها وبقوة ومن دون رادع أو قلق صوب سحر المفرقعات النارية. فالجمهور مبهور ومستعد للدفع والرقص.

لكنني اعود واتذكر ما قاله جيل دولوز في مقدمة كتابه ( الحركةـ الصورة ) عن هذا العطب الذي يلتصق بالفن السينمائي . أشار دولوز بأن هذا (الضعف) لا يقتصر على الفن السينمائي حين اراد ان ينصف الفن السينمائي والسينمائين بقوله : ( من الممكن مقارنة المؤلفين السينمائيين الكبار ليس فقط بالرسامين والمهندسين المعمارين والموسيقيين ، وانما يالمفكرين ايضا. فهم فكروا من خلال الصورة ـ الحركة والصورة ـ الزمن ، بدلا عن التفكير من خلال المفاهيم والتصورات. غير ان المقدار الهائل من الضعف وعدم الكفاءة في الانتاج السينمائي ليس اعتراضا على ذلك. فهو هنا ليس اسوأ منه في اي مكان اخر ، بالرغم من نتائجه الاقتصادية والصناعية الفادحة. لكن المؤلفين السينمائيين العظام ، هم فقط اكثر قابلية للجرح وتثبيط العزم من غيرهم. وما من شيئ أسهل من احباطهم والحؤول دون انجازهم لاعمالهم ، وتاريخ السينما حافل بقائمة طويلة من الشهداء )

. ...

لكن دعوني ادير دفة الحديث. فحين قلت ان السينما ( ليست قلادة امتياز) كنت ارغب في كتابة اشارة مقتضبة ،عن مفارقة اخرى تتعلق بالكتاب والكتابة. مايثير الشك حقا ، والقرف في كثير من الاحيان ، هو مايتردد في كتابات وهتافات الادب العربي، حول احد جوانب هذه اللغة التبشيرية التي تسللت الى الكتابة العربية بطرق مغلوطة وملتبسة. حين يتحدث بعض كتاب الرواية والقصيدة عن توظيف مفردات لغة السينما في كتاباتهم. وبالطبع يساندهم دائما نقاد الادب الذين شمروا عن سواعدهم لأكتشاف وتحليل الزوايا واللقطات واحجامها في قصيدة فلان او الحركة السينمائية في قصة علان حتى اصبح اليوم كل شاعر وكاتب يتباهى بالحس السينمائي في كتابته وكأنه صاحب امتياز. او حامل راية الابتكار. لكن عن اي سينما ولغة يتحدثون ، وهل هم مؤمنون فعلا بما يتفوهون به. كانت قصيدة فلان نموذجا رائعا لتوظيف ( المونتاج ) السينمائي ...

حسنا ، هل يحتاج شاعركم هذا الى الإنحناءات ورفع القبعات عاليا ، هل تقصدون بالمونتاج تلك الانتقالات البديهية في الزمان والمكان والتي سجلها المكتوب منذ ولاداته الاولى. و في تلك الأيام عندما كنا ندرس السينما في الاكاديمية ، كان استاذ مادة التصوير يقرأ لنا مقاطع من ملحمة كلكاماش ويطلب منا التعرف على الانتقالات الزمانية والمكانية وتشخيص الضوء والعتمة في كل مقطع.


برغمان ، فيلليني ، كوراساوا ، غودار ، بازوليني ، انطونيوني ، ... لا تقتصر إنجازات هؤلاء على توظيف مفردات اللغة السينمائية البديهة ( الانتقالات الزمانية والمكانية واحجام اللقطات والزوايا ) التي يتحدث عنها الكتاب والنقاد العرب. فهؤلاء وظفوا مفردات اللغة السينمائية لخلق عوالم سردية بأساليب مميزة . ومثلما نتحدث عن اسلوب كافكا يمكننا الحديث عن اسلوب خاص بتاركوفكسي الذي لا تكمن عبقريته في تلك الانتقالة او ذلك المشهد . كما لا تكمن عظمة كافكا في تلك الجملة الكابوسية في هذه الصفحة وتلك. يمكن العثور على لقطة رائعة وانتقالة أروع وحركة كاميرا مدهشة في اغلب الافلام الهوليوودية. اجل ، هذا صحيح. يمكننا ان نفهم ان اسلوب قصة فلان يقترب من آلية اشتغال الافلام التجربيية، او ان رواية احدهم تعتمد على بناء الافلام الواقعية الايطالية. ( على الرغم من ان هذه الاتجاهات السينمائية مستلة من الادب بطريقة واخرى ) لكن لا تقولوا بان هذا الشاعر وذاك ، كان قد وظف في قصيدته ( اللقطة القريبة ) بعبقرية لامثيل لها. ارجوكم. ماهذا الهراء !

ميلان كونديرا







رسالة من صديقي واستاذي عدنان المبارك



عزيزي حسن. تكلمنا مرة عن نقل الأدب الى السينما بمناسبة سيناريوهك المعتمد على قصتي ( البرغشة ) . وها أني الآن أعود الى الموضوع لكن من خلال شذرات صغيرة حسب، وآمل أن أعود الى الموضوع بصورة لائقة وأكثر إسهابا في القريب . والشذرات أطلقتها ترجمة رائعة قام بها الصديق الكاتب العراقي جيان لمقدمة كتبها ميلان كونديرا لمسرحيته التي صهرها في بوتقة ديدرو وبالضبط روايته الخالدة ( جاك القدري ). وكونديرا أبقى العنوان نفسه لمسرحيته. كانت ترجمة الصديق القديم مكتوبة بخط يده ( يبدو جيان مترددا في دخول " برج بابل الألكتروني " ،كما عندي ريبة في أن أصابعه ، شأن أصابع الصديق فؤاد التكرلي ، لم تنقر يوما على الآلة الطابعة أيضا ! ) مما يعني أن بإنتظاري عملا لا يخلو من التضحية ( سبق أن إشتكيت في رسائل سابقة من كراهيتي الشديدة للتبييض وإعادة الكتابة ! ) : نقل الترجمة الخطية الى الكومبيوتر.. لكنك تعرف بأن للوفاء الى الأصدقاء شتى المعاني و الأفعال ! بإختصار : ها أن كونديرا أمامي ! وها أنه يتكلم عن أمور شتى تعكس ذكاءه وقدراته في الكتابة وتحليل الظواهر. بالطبع ما يهم شارلي هو كلام كونديرا عن فن الفلم بالدرجة الأولى ( آمل أن تظهر الترجمة الكاملة في موقع " القصة العراقية " في القريب لكن هذا لايمنعني من الدخول في دردشة عما كتبه كونديرا ، مع عزيزيّ حسن ! ). في مقدمته التي اسماها ( مقدمة نحو التنويع ) يمضي كونديرا مع كاتبيه المفضلين ديدرو و الإنكليزي لورنس ستيرن صاحب الرواية الفذة المتنبئة بالحداثة بل وما بعدها أيضا : ( حياة و أفكار الجنتلمان تريستام شاندي ). والغريب أن ما كتبه كونديرا عن الرواية هذه مجرد كلام عن فنوننا المعاصرة في الكتابة والفلم أيضا ( كما تعرف عاش ستيرن في القرن الثامن عشر.. ). إلا أن إلتفاتته الذكية تبقى في تساؤله : ألم يكن ديدرو متأثراً ، بقوة ، بنموذجه العظيم للورنس ستيرن " تريستام شاندي " ؟ وهنا وصلتُ الى ما أريد أن أقوله أي الإستماع سويةً الى كونديرا : تريستام هي واحدة من تلك الفوضى العظيمة الضائعة. الرواية التي خلقت قدوة هي الأكثر شبها بصاموئيل ريتشاردسن الذي إكتشف الإمكانيات النفسية للرواية في تقنية الرسائل . بإختصار : لايقيم ستيرن بناء قصته وفقا لمبدأ وحدة العمل ( أكشن ) حيث يتضمن كنتيجة منطقية ، الأخذ بعين الإعتبار ، الفعلي في الفكرة الوحيدة للرواية ، و بالنسبة إليه : الرواية تلك الحرفة العظيمة في إبداع الشخصيات مما يعني حرية غير محدودة في المصطلح الشكلي للإبداع. ومفهوم ان هذا المصطلح هو للإبداع الفلمي أيضا. وعن رواية ديدرو يقول كونديرا بأنها إنفجار حرية عشوائية دون قيود شخصية ، وعن رواية ستيرن، وهنا ارجو الإنتباه ، يقول إن ثمة فارقا بينها وبين ( جاك القدري ) أي رواية ديدرو، في درجة الوهم الواقعي : ستيرن يعطل تقسيم الوقت الى فترات ( الكرونولوجيا ) ، لكنه يرسي الأحداث بثبات في الزمكان لجعلنا نؤمن بواقعية وجودها. بهذه الصورة يخلق ديدرو فضاءا لم يكن مرئيا من قبل في تأريخ الرواية ( بالطبع إستفاد الفلم أيضا من هذه النظرة الروائية ) و بدون جهازية المسرح. و هذه ملاحظة أخرى لكونديرا : في كامل التأريخ العام للرواية ، يمثل ( جاك القدري ) الى أبعد حد ، الرفض التام للوهم الواقعي وجمالية الرواية النفسية ( وهذا إقتراب لحد الإلتصاق بأعمال فلمية معينة .. ). براي كونديرا تكون الطريقة التلخيصية لفهم المواضيع إنعكاسا وفيّا عميق الجذور للنزعات في وقتنا الحاضر. مما يجعلني أفكر أنه في يوم ما سوف تعاد كليا ًكتابة كامل الآداب الماضية وُتنسى كلياً ما بعد إعادة الكتابة. وأنا أفهم من رأيه أن إعداد الروايات العظيمة للشاشة السينمائية والمسرح ليس هو أكثر من نوع من التلخيصات للقاريء. لكن كونديرا يقول أيضا إن وجهة نظره لاتدافع عن عذرية الأعمال الفنية المقدّسة الى أبعد الحدود . حتى شكسبير أعاد كتابة أعمال أبدعها آخرون غيرأنه على أية حال ، لم يكيّفها : إستخدم العمل كفكرة في أعماله المتنوعة التي كان فيما بعد الكاتب المنفرد المستقل لها. يقول أيضا : من ناحية أخرى إن إعادة كتابة آنا كارنينا مرئية على المسرح أو على الشاشة هي تكيّفات ، وهذا إختزال . وكلما حاول المكيِّف الحفاظ على سرديته مختبئاً وراء الرواية كلما إزدادت خيانته له. وفي إختزالها يحرِّم ، كنسياً ، ليس فقط جمالها ولكن معناها أيضا.

كما تلاحظ يا عزيزي إن كونديرا يكاد يتناول موضوع تكييف الأدب ، للسينما أو غيرها ، لكن من زاوية غير معهودة ، وهي أصيلة بالطبع. بعبارة أخرى يجد كونديرا أن القيمة الحقيقية لعملية التكيف هي بيد فاعله. وفيما يتعلق ب( آنا كارنينا ) يجد أن كل تكيّف لهذه الرواية ضروري وفقا لطبيعة الفهم التلخيصية ، وكل محاولة تفسير سبب تصرف آنا كارنينا بوضوح ومنطقيا ، وعقلنة الموضوع تجعل التكيف هكذا إنكارا للنقاء والبساطة ، لأصالة الرواية. اكيد أن كونديرا بالغ التعصب لفن الكتابة لكنه لايقصد هنا التكييف الفلمي بالضبط بل المحاولات الأخرى لعصرنة شكسبير وليس هاملت وماكبث إلخ .ونقرأ هنا في مقدمة كونديرا : " الموت لكل من يجرؤ على إعادة كتابة ما سبق أن ُكتب ... ليتمَّ خصيهم وتقطع آذانهم ! ". أن كل كلام كونديرا إبضاح بالغ الجد لكتابة مسرحية بالإعتماد على ( جاك القدري ) الديدروية إلا أننا عثرنا على تلك الشذرات أيضا..

كما تعرف ليس موضوع التكيف بالمادة المطواعة أو التي يسهل غلق ملفها بسرعة ومن دون النفاذ الى الطبقات السفلى. لكن قد تكون هناك فائدة لشارلي ومحبيه من حديثي عن ( مقدمة ) كونديرا. محبتي .


شجرةٌٌ تحت الطبع, والتحميض









لقطاتٌ موجزةٌ من حرب المرئيّ, والمكتوب من زاوية عين السمكة



أكشن :

- تدريب -

(لا تتنازل عن الفكر

لا تستند على : دائماً كان الأمر على هذا الشكل

وسيكون كذلك دائماً هناك حيث لن تنحني

سوف توجد

أنت نحن أنت التاريخ )

- ريتسوس-


عداوةٌ كلاسيكية
فيما مضى, كنا نقول : أنّ (ماريا) المُتمددّة فوق سريرها في مدينة سيدني، وهي تقرأ كلمة شجرة في رواية لـ(دويستوفسكي), هي ليست الشجرة التي ستقرأها (فاطمة) في البصرة، مع أنّ الرواية نفسها, والسطر, والنقطة، لأنّ (ماريا) سوف تحاول, أو من دون أن تشعر, أن تتخيلها, أو تشتهيها وُفق ما تمكنت من الحصول عليه, والإحتفاظ به من أشجار في خانات ذاكرتها, تبعاً للأماكن التي عاشت حياتها فيها، وكذلك هو الحال بالنسبة لـ(فاطمة) البصرة، أما السينمائيّ الذي سوف يتورّط بنقل رواية (دويستوفسكي) هذه، فإنّه سيفرض الشجرة على كلّ من (فاطمة) و(ماريّا)، وهنّ الآن يشاهدن في الشاشة صنف الشجرة, وإسمها, ولونها, والتي إختارها صانع الفيلم حسب الأماكن التي إقترحت مخيلته عليه أوضاعها, وحتى, وإن أراد الإلتزام بالأماكن, أو إسم الشجرة التي أحبها الروائي، فإنّ السينمائي سيغضب عليه في كلّ الحالات، إننا نُعيب عليه خيانته لذلك النظام الحلميّ الذي كنا نُعوّل عليه بين المكتوب, والمُتلقي، فشجرة (دويستوفسكي) كانت أخرى بالنسبة لـ(ماريا), وثانية لـ(فاطمة), ورابعة, وخامسة, بالنسبة لـ(حوراء), و(ديانا) (لا يُعوّل كاتب المقال على المرأة بشيء, لهذا يستشهد بأسمائهنّ)، من هكذا هواجس, بدأ المكتوب حربه على المرئيات, وأخذ يتسلّح بكلّ مناسبة, ونقد, للتنظير لهذه العداوة (الإيجابية), ومن مختلف الزوايا, والإتجاهات، والطروحات, والأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال, ما كان يدّعي, ويتباهى, بأنّ الرواية الجيدة, ﻻ يمكن لها أن تكون فيلماً ناجحاً، وأنّ قدر السينما, إذّا ما أحبت الإقتراب، أن تعالج الروايات البسيطة, و حتى التافهة، ولم نتوانَ عن إشهار كلّ دليل, وبرهان في وجه السينما, وتعجيزها بأعمال فنية عملاقة لـ ( جويس - بروست - فوكنر), مع أنّ هذا الإدّعاء - فيه شيء من الصواب - بدأ يخفت تدريجياً مع تحول فنون المكتوب, ورغبتها في تجريب تقنيات السينما نفسها / آليات السرد، وبدا السينمائيّون أكثر متانةً, وثقةً, وهم يعمّقون, ويتفاخرون بلذة آلية نصوصهم المرئية الجديدة، أما اليوم, فقد صار بإمكاننا أن نحاجج المكتوب بشتى السبل، كأن نقول للروائية الجميلة( إيزابيل الليندي) : ـ إيزابيل ...تعرفين أنّ الممثلة (ميريل ستريب) في (بيت الأرواح)، الفيلم المأخوذ عن روايتك الشهيرة بنفس الإسم، إستطاعت أن تُعيد خلق الكثير من سطور حكايتك, بأدائها الملائكيّ الطاهر، وأن تجعل من السطور الطويلة التي تصفين فيها الشخصية, زوائد دودّية عن الحاجة,... مع الإعتذار ... كنا نخوض حروباً جماليةً للدفاع عن الجنين, وشرعيته, وكأيّ خلق وليد, وفريسة, سنشهد إنقضاض غرائز الإنسان المُدهشة في الإستحواذ على هذا الخطاب الإبداعي (لا نقصد السينما فحسب, والتلفزيون), وتطويعه لكلّ الوظائف النفعية, والمرضية للهيمنة, وخروج الخطاب المرئيّ من سحره الأول, إلى سحره الأخير, الذي سيجلب سذاجة الأول البريئة, وشحنها بعفوية مُلفقة, وبتقنية خرافية, إن أُمكن تسميتها مفاوضات السلام.


>الإيدولوجيا في الواقع نتاج مخيلة عصر ما، السينما نتاج مخيلة مجتمع<

ـ رولان بارت ـ

مع ( بارت ), أحد أهمّ عشاق السينما, والمهووسين بها, (إلى درجة أنه يُحيل بعض الأفعال في مشاهد شابلن إلى الميثولوجيا, أو يستنطق علم الإشارات في كتاباته حول السينما - أغلب كتابات بارت عن السينما ذات طابع شعريّ) يمكننا أن نتلمس المديّات التي أخذت تنضج علاقاتنا فيها بنصوص الشاشة, ومراجعة الحسابات، مع أن الحاجة لمراقبة العالم (الصورة المرئية المُتحركة بالتحديد) هي حاجةٌ إنسانيةٌ, وجماليةٌ في نفس الوقت، أما دّفة الشكوك في تتبع مسار هذا الوليد - صار الآن إلكترونيّاً - أيّ بعمر صبي، والذي إنتقل من طور سحر الصور المُتحركة المُفرّغ من كلّ معنى, إلى مرحلة المُشاكس المُحرج لبقية دروب الخلاص التي عبدتها الفنون الأخرى (كم درب يلزمنا ... ؟ ) إلى مرحلة المُنافس الشرعي، حتى أنّ التشهير بالشاشة, بدأ يتخذ طابع الجدية بدل الإستسهال, وركن السينما إلى ثقافة الترفيه(البعض ما زال يفضل هذه النظرة) في ( مقاومة السينما) كمثال، يلزمنا (بارت) أيضاً أن نضع كلمةً ثالثةً, ﻻ لحسم الحوار, بل لمُساندة تعميقه، بدل الفرجة التي كان يقترفها عزيزنا المُشاهد في (صالة الوليد)، فـ (بارت) من زاوية مضادّة, ﻻ يتردّد في القول :

الفيلم شريطٌ ثرثار، التوكيد إستحالة التشظي، إستحالة الهايكو وهذا شكلٌ جديدٌ من طرائق التفكير الجديدة, والتي تحاول أن تُعيننا على شكّ آخر، ﻻ ذلك الذي يسلب حقوق الجمال(محاولة تسطيح الشاشة)، بالمناسبة، نحن نتحدثُ عن بارت - كمحاولة غير وافية لإيجاز الدروب التي شقتها مدارس سينمائية مهمّة/الواقعية الإيطالية، أو سينمائيّون نبلاء/غودار، وإنتقال عدد ﻻ بأس به من الروائيين, والشعراء للتعبير بالنثر السينمائيّ/ آلان روب غرييه، ومحاولة العديد منهم ولوج عالم الكتابة السينمائية/ماركيز، فوينتس( الأخيريّن فشلا)، إلى جانب المحاولات المُستمرّة لإستحواذ المكتوب على منجزات السينما الجمالية، أو إعتبارها مصدراً خصباً للإلهام, والتجريب .


أمبرتو إيكو
يمكنني إيجاز الحركة في اللقطة الثالثة, والتي أودّ أن أشير بها إلى الميناء الذي رست به سفن المنافسة, أو (الحديث عن حرب بين المرئيّ, والمكتوب, أمرٌ تجاوزته الأحداث), مع أنّ (إيكو) يشير في قوله هذا إلى مواجهة أوسع, تتضمن أوعيةً مرئيةً مختلفة/ سينما - تلفزيون - حاسوب - إعلانات ضوئية، بل إنه يطالب بـ (تحليل التكامل القائم بين الاثنين), وهو ( يرفض الموقف المانويّ لأشباه المثقفين الذين يُمثل المكتوب بالنسبة لهم الخير, وتُمثل الصورة الشر), وهذا ما أودُّ أن أؤكد عليه في اللقطة الثالثة فقط، من آراء – إيكو, لكن ...
قطع
( لكنّ المُتابع لكتابات السيد - إيكو - على صعيد المُنجز النقديّ, والتنظيريّ فيما يخصّ{ الأدوات, والبضائع, والكتاب الإلكتروني, والمكياج, والإعلانات, والصحف} يمكنه العثور بسهولة - على شرط أن تتخلى عن رعب إسمه الوردة على متفائل معرفيّ عصريّ, وبذريعة المُواكبة, والورع أمام الصراعات, كما يحدث في كلّ مرة, وهي تغلف بالمزيد من قوانين الإستسلام المُقنع, بدعوى حلّ الإنسان, ... في حين أنّ النصر برمته يكمن في ديمومة اللعب, والرفض، كم أخبرتنا الشياطين, والسماء من قبل، لهذا, لا يمكنني أن أقدم السيد - إيكو - كمثال نموذجيّ لإعلان - نصر المرئيّ المُطلق - على حدّ تعبيره في لقاء صحفيّ سابق، هذا يشبه كثيراً مرضى نهايات المُصالحة, والتكامل الأعزل في شتى مجالات المعرفة, وحروب الإنسانية، من أفكار الخلاص, والملائكة التي إقترحتها الأديان, إلى آخر هبة منحنا إياها السيد (فوكاياما) بنهايته الدينية اللطيفة.
حركةٌ ذاتية
أظنُ أن جمعيات حقوق الحيوان, من حقها جلب السلام لفراء الثعلب، أو أن نساند الوردة ضد شهوة القطف(وفي كل دقيقة إلكترونية, ومتمدّنة, تُذبح البشرية من نفس الشهوة, وبآلية قطف منحطة) وكلّ محاولة تقوى, وإيمان, ومصالحة, ونهايات, وسلام, وإستسلام، فيما يخصّ على الأقل فحوى لقطاتنا هذه، هو وقوف سلبيّ, وإكتفاءٌ بمرحاض الفرجة، الذي ندّعي أننا ﻻ ننتمي إليه، خاصةً مع مرئيات مُعاصرة, وصلت اليوم في كثير من المناسبات بالمتلقي إلى كراسي الصالة الأولى,...حين هرب منها الناس, وهم يشاهدون القطار يتجه من عمق الشاشة صوب كراسيهم المذعورة (ما حدث بالضبط في عروض السينما الأولى), وما يحدث اليوم في أفلام هوليود... (عدوٌ كلاسيكيٌ إنتشر وبائه في أكثر من شاشة) من خلال تقنيات متقدمة, وهائلة, هو رجوعٌ إلى سحر الصورة المتحركة الساذج، والأمثلة لا طائل منها. سنحاول أن نورد ثلاثة أمثلة, سوف تبدو بأنّ ﻻ علاقة لها ببعض، غير أنها تصب في القصد المُتشعب نفسه, والذي نحاول حصره فيما يخصّ قضية الخطاب, والمُنجز الجمالي المُتعلق بإنجاز شجرة ممكنة, ومستقلة, وسحب البساط من تحت كلّ من يُخلّ بشرف الجمال، ﻻ الحديث عن رضوخ, وأقنعة, ونهايات ... الأول: يوضح أن"موروث الإحساس بأن الشاشة ليست جديةً إلى هذا الحدّ ما زال حاضراً بقوة، فالمثال الذي سنورده، لو كان وعائه مكتوب, لما مرّ بسهولة, أو لما فكر صاحبه أن يطرحه بهذه السذاجة، على الأقلّ لإحتال علينا قليلاً, بدل هذه المباشرة الميتة في المعنى، وهو نقيض مع ما يحاول (إيكو) الإشارة إليه، وبأنها الحاجة الطفولية, والمرضية للتكرار, هي التي تدفع بنا إلى الطمأنينة للمكتوب، فهو يقول (أنا أعلم عن طريق التلفاز أن السيد فلان, وقد سقط من النافذة، وقراءة ذلك في الغد في جريدة, يطمئنني, ويجعلني واثقاً من نفسي) أيّ الحاجة الطفولية للتكرار, و( إيكو) هنا مع الشكّ في الشاشة, في الوقت الذي يحاول أن يكون ضدها، وحتى الحاجة الطفولية، إلاّ أنّ الوقت غير مناسب, وﻻ نحبذ جرّ الموضوع لإشكالية شعرية . الثاني: نحاول أن نشير به إلى الإمكانيات الثمينة, والمرنة التي وصلت لها السينما، والمثال نفسه, هو مثالٌ في الكتابة السينمائية الجديدة, وإشراقاتها.


الثالث: نكتفي بالإصغاء للسيد (كارلوس فوينتس).


insert / 1
تدخل كومةٌ من الحشرات (أقرب إلى الذباب) إلى مطبخ نظيف، ويبدو أن نيّة عصابة الحشرات تلويث كلّ شيء، ويرتدي جميع أفراد العصابة قبعات مضحكة, وهم يحملون حقائب القاذورات، بينما يحمل قائد المجموعة هاتفاً نقالاً كبيراً، بعد قليل, يتصل بالمجموعة زعيم العصابة, وهو يجلس في مقهى عربي, و يرتدي زياً فلسطينياً, ويطلب من أفراد عصابته (حشراته العربية) إخلاء المكان بأقصى سرعة ممكنة، إلاّ أن مبيد الحشرات يكون قد دخل المكان، وبرشة عملاقة, وبدفعة واحدة, يجهز على الحشرات كلها، ينقطع الاتصال. هذا إعلانٌ تجاريّ عن مبيد الحشرات الجديد, وهو يُبثُ في محطة فضائية أوربية/ هنغاريا.
insert /2
فمثلاً: الشريط القديم المُمزق, ﻻ يملك علاقة بالبنية الفنية للفيلم, أكثر مما يملك كتاب ممزق إتسخت صفحاته، بالطبعة الجمالية لـ(دون كيخوت), لكن, ما أن نبني الفيلم كتبادل لأجزاء قديمة, متآكلة من الشريط, مع أجزاء جديدة (سوف يُستقبل كأجزاء حيادية, أيّ ليست شريطاً) ووضع هذا التبادل المتكرر في ترتيب معين, يمكن الإحساس به، حتى يتحول تلف الشريط بسبب قدمه، من عيب إلى عنصر من عناصر لغة السينما- / لوتمان
insert /3
يقول الروائي (كارلوس فوينتس): "لقد كبرتُ مع بدايات الراديو، وهي حقبةٌ يتوجب فيها الركض إلى بائع الجرائد, للتأكد من الشجاعة التقنية لمصارع الثيران (مانوليتي) التي كان يعلن عليها مذيع محطة ... "ولنرى كتابة : بلى, لقد كان الأمر صحيحاً، فوحش قرطبة, أيّ مصارع الثيران, قطع أذن, وذنب الثور الشجاع، أما اليوم, فقصف (بغداد) يحدث في اللحظة نفسها التي نراها فيها على الشاشة، ﻻ حاجة لتأكيد الأمر عبر الكتابة، والأدهى من هذا, أنه ليس من ضرورة لفهم الأمر، وبفضل القوة على التواجد في كلّ مكان( وهي صفة من صفات الله), وبفضل آنية, وفورية الصورة، فقد رأينا مشهداً زاهي الألوان، أما الأموات ...؟ فلا أحد رأى, وﻻ أحد سمع ) .
stop



تدريب

"أيها الإنسان من جديد

أنت الأكثر طرداً

الأكثر إلتزاماً

الأكثر وحدةً

أنت المسؤول أيها الإنسان "

يانيس ريتسوس


كلمتان في اللقطة الطويلة - التابوت







هذا الدرس,ُ هو أرجوحةٌ مشدودةٌ إلى شجرتيّن, واحدةٌ بالأحمر, والثانية بالأبيض, قدمٌ في الموت, وقدمٌ في العذاب, هكذا أحبّ أن أفكر بلوحة (أنغمار بيرغمان) السينمائية : (همساتٌ, وصرخات) .

الخصوبة تحتضر, بعد بضعة لقطات لحديقة خلابة, وهادئة إلى حدّ الشكّ, لقطاتٌ لساعة يمضي بها عقربها إلى حدّ الشكّ مرةً أخرى, ثم واحدة نائمة بثوب أبيض في صالة حمراء، الجدران, والأثاث, وأضيف أنا جوفك/ المتلقي, وإمرأة ثانية في غرفة, ونائمة، لكن, هذه المرة تفيق بكلّ شحوبها, يبدو أنها مريضة, وسوف تحتضر طوال زمن الفيلم الأرجوحة, وثم تموت, أو لا تموت, وإذّ ما تخيلت أن فوق الأرجوحة سماء, وتحتها أرض, وأنك وُلدت, وسوف تمضي, فإنك سترضى, بلا أدنى شكّ بهذه اللعبة, بين هاتين النقطتين نحتضر, بين الرغبة, والألم, بين الهمس, والصراخ, وبين كلّ لونيّن سنتأرجح, كما هي الحكاية أبداً.

أربعة نساء بأثواب طويلة, وبيضاء, لقد بدأ الفيلم/الألم في صالة البيت, ودائماً الأحمر, وعين (برغمان) التابوت. كثيرون هم الذين لا يحتملون اليوم محنة مشاهدة أفلام (بيرغمان), حيث أن كلّ مشهد يجرّ نفسه ببطئ, ووحشة لا تُطاق, بإستثناء الذين مازالوا يؤمنون بما هتف به مكتشف السينما (لوميّير) وهو يشاهد أول صوره, وهي تتحرك على الشاشة : (هذا هو أعظم نضال ضدّ الموت), لهذا, فإنّ الحديث عن كاميرا (بيرغمان), هو حديث عن شاشة كفنّ, وقصيدة.


اللقطة :
إقتصادٌ بليغُ, ومُتعمدٌ في حركة الكاميرا, بل هي مريضةٌ, متوجعةٌ, مرعوبةٌ, مثل أرواح النساء اللواتي يواجهن عين (بيرغمان), العدسة المسرحية, ولقطةٌ ساكنةٌ, وطويلة(زمن اللقطة) كثيراً ما تشتهي لو أنه يقصها، إلاّ أن (بيرغمان) يذهب في غالبية أفلامه لترك حبال اللقطة تشدّ على أنفاس المُتلقي بلا رحمة, كخشبة المسرح التي تسرق الأنفاس, والذي هو أبنها, وجنينها, حتى أنه في (الهمسات), يتمادى, ويلجأ إلى توظيف تكنيك الإنتقال من مشهد إلى آخر بواسطة الfadein/fadeout لا كما إعتدنا على خلفية مظلمة بالأسود, بل بخلفية مظلمة بالأحمر, مما يخلف شعوراً بأنّ المشهد لم ينته, ولن, وكأنّ الفيلم مشهد واحد, ومؤلم في جوف الأحمر، البيت الذي تدور فيه جميع أحداث الفيلم، هذا, إذا ما كان هنالك أحداث بالطريقة التي تتخيلها, تذكرتُ أن أقول بأن تايتل بداية الفيلم هو الآخر مطبوع على خلفية من الأحمر, ماالذي يريده (بيرغمان) من كلّ هذا الأحمر وسط هذا العذاب, والموت البطئ ؟ هو الذي يقول أن صورة نساء في غرفة مطلية بهذا اللون الرغبة، أو حلمٌ طارده لفترة طويلة من الزمن, قبل أن ينقل هذه اللوحة إلى الشاشة, حسناً, مطاردةٌ رمزيةٌ هي التي أنجبت هذا الدم, والموت. ولولا أننا عبيد لإشارات, ودلالات الرموز, لقلتُ أنّ اللون الأحمر في هذا الفيلم, ليس سوى قبر معتم, وأسودٌ من العدم الخالص, غير أنّ الأحمر بجوار إمرأة يفتح باب القراءة إلى ماتشتهيه المخيلة, فضاء اللون يكمن في تحريره من إسم الصبغة المتوارثة, الآية التي تريد أنّ تخلص للون, والإحساس, هي سطورٌ موهومة, لكن, ما يعنيني لقطة (بيرغمان), الجرأة التي تفتقدها سينما اليوم في ذوبان الكاميرا بالمعنى, وبإخلاص نظيف، خوفاً من خسارة زبون, أو بحجة إيقاع العصر الإلكتروني.

ولعلّ من أهم المآزق التي تواجهها اللقطة الطويلة في أفلام (بيرغمان)، خاصةً إذا ما كانت محمّلةً بكلّ هذا الوجع, والسكينة, كما في لوحته (الهمسات), هو مأزق التمثيل, أنت بحاجة إلى جثث, بقدر ما أنت بحاجة إلى أبطال شاشة, ولعلّ (بيرغمان) هو الوحيد القادر على إختيار الممثلين الذين يمكنهم الصمود أمام لقطة مصرّة على نبش ما يمكن أن يفصح عنه الوجه الإنساني لحظة التفسخ, إذّ تسعى كاميرته تقديم ذلك, وعلى سبيل المثال, من خلال تغييّر أحجام اللقطات داخل اللقطة الواحدة, أيّ أن التقطيع يتمّ داخل اللقطة الواحدة من خلال حركة الكاميرا, وهو أسلوب معروف لدى السينمائيين منذ فترة طويلة, إلاّ أن ما يُميّز لقطة (بيرغمان) أنها تشتغل على اللوحة أكثر من مرة داخل اللقطة نفسها, وما يُميّز اللقطة الطويلة أيضاً هي قدرتها على التأمل، وهي تواجه ما يمكن قطفه من هذا العالم على أساس أنها صور درس, أو صرخة, وبما أن هذا الشاعر السينمائيّ, هو وريثٌ شرعيٌّ لأبناء الصمت, ومعلميه, هو الذي يقول عن تاركوفسكي : (إنه مثلي... لا يحب الكلام، بل السينما) من هذا, وأدّق, كان الصمت لقطته التابوت, فهو يستغني في أغلب الأحيان حتى عن الموسيقى, والتي كثيراً ما نشعر أن لحظتها قد حانت, لكنه بدل ذلك, يُطلق للقطته الطويلة المزيد من حرية الصمت, والهدوء, حتى يتجلى المعنى على هيئة ركام مفزع من الأحاسيس الدامية, وكأنّ (بيرغمان) لا يثق لا بالكلام, وحسب, وإنما بجمهوره الذي عليه أن يتأرجح بين الهمس, والصراخ, حتى تجفّ طمأنينته الموهومة, إن لقطة (بيرغمان) هي عقاب, وهي سمٌّ بطئ, هي كمشهد الأخت الميتة التي تفيق من أجل لمسة يدّ حالمة بدفء الدم، بينما نفزع نحن من الأحياء, والأموات, وبنفس الذريعة, إننا نهمس من الحب, ونصرخ من الألم، لكننا, سرعان ما نعود, ونهمس من الألم, ونصرخ من الحبّ, الدرس في الأرجوحة, ولقطة الشاعر (أنغمار بيرغمان) هي الدرس السينمائيّ المُوحش, وهي ردّ إعتبار دائم لجوهر السينما الذي تلطخه في كلّ مرة مومسات صالات الفرجة الرخيصة, وهي نسفٌ مباغتٌ لبراءة الكاميرا، إذّ يبدو أن فكرة تشغيل الكاميرا بعد مشاهدة فيلم (همسات, وصرخات) هي فكرةٌ ليست بهذه السهولة, أو أننا سنكتشف أن غالبية الأفلام التي تُعرض اليوم, ماهي إلا إسرافٌ ساذجٌ في مفردات اللغة السينمائية, وأننا سنتعلم أن لقطةً واحدةً مخلصة, يمكن لها أن تكون كلّ هذا التشييّع المرئيّ المُوجع, والمُخزي لهشاشة الكائن, وخيبته, حنطة كلّ إبداع عين تابوت!!

أما السعداء, فهم سينمائيّون وقحون.

الفيلم القصير





في كلّ ليلة, تُنهي قناةٌ تلفزيونيةٌ بثّها في البلد الذي أشكّ بأنني سوف أموتُ فيه، برامجها بمجموعة من الأفلام القصيرة جداً ( نخبويّة), مع أنّ قناة ( tv2) هي محطةٌ تجاريةٌ، وأخيراً, بقصيدة لشاعر من شعراء المجر الكبار, البلد الذي لن أموت فيه مُطلقاً .

وما دامت الكلمة مُصرّة على إعلان وقاحتها/عذريتها، بكلّ هذه الحدّة في جسّد القصيدة, كان على الصورة في الفيلم القصير, والذي شيّد خارطة إستقلاله عن الفيلم الروائي من خلال طاقته الشعرية المُتفردة، إضافة إلى الأسباب البديهية / التقنية في الإستقلال, أن تحفر لها في متن القصيدة المرئية/الفيلم القصير فضاءً رحباً, وبدقة, إذّ, بمُجرد وعيّ صانع الفيلم بورطة الزمن، سرعان ما تتمكن منه أخلاق الصورة فيما يخصّ التكثيف, والإختزال, أما فيما يتعلق بكيمياء اللقطة, فهو من نصيب موسيقى الصورة التي تشتدّ, وتضمحل مع قوة الإمساك بالوتر السريّ في مبدأ التوازن السمعيّ – البصريّ, والذي تحقق الصورة من خلاله نصراً آنياً (طبيعة السينما المُضارعة- السرد لحظة التلقي), من المُمكن أن يمتدّ كما لعنة القصيدة الجيدة في إيقاظ ما تودّ, ومالا تودّ جثة حبيبنا المتلقي العزيز, في حين أنّ زمن الفيلم الروائي يمكنه العبور, وإصطياد الدهشة من خلال الترهل الذي سوف يحلّ بالمُشاهد على الرغم منه، فهذا الشكل من الإسترخاء المُتعمّد, والذي تحفزه الصور المُتدفقة من الشاشة طيلة ساعة, أو ساعتين، بإمكانها خلق حالة من الإرباك, والتوتر في ذاكرة المشاهد, والتي لن تكفّ طوال تواجدها في الصالة, أو أمام الشاشة في البيت(مع الفارق الكبير علمياً, وشعرياً) عن إستحضار ما في خزينها, أو حتى توهمه لممارسة الإنفعال بشكل تطهيريّ, كلاسيكيّ, بإستثناء الأفلام المُرعبة(برغمان, فلليني, غودار, أكيرو كيروساوا, بازوليني, أوليفر ستون, والأندر غراوند, ..الخ ), أما بالنسبة للفيلم القصير, فهو نقيض ذلك الترهل, فالقصيدة الجيدة, ما هي إلاّ عملية نسف مباغت لكلّ أشكال الزمن, والأروع, زمن التلقي المفتوح, إبتكار زمن بحاجة لمُلامسة الكارثة, فمذاقُ الكارثة لا يقلُّ لزوجة عن زمن الكوابيس المائعة في السرير/الحلم، كما هو معروف, أو كما بالإمكان أن تكون, ومن هكذا متانة هشّة, أخذ الفيلم القصير على عاتقه البحث عن ولادة مُثمرة أثناء فترة حمله القصير, ومخاضه, في ذلك, يستند إلى ما يمكن تمزيقه مما للسينما من أوعية, وقوانين تسعى للمُصالحة مع المتلقي لأغراض وقحة نفعية, ولا أقصد الرهاب الذي أصاب البعض من متوهمي الحداثات تجاه اللغة (المرئيّ- المكتوب) لسدّ الطريق أمام قصتنا الحزينة/جمهورنا الأليف ..!!

" تلبثي أيتها اللحظة, فأنت رائعة الجمال " يقول فاوست - غوته - ما يطمح له الكائن المكرّر في شوقه المؤلم للتنفس بعيداً عن مصيدة الزوال, كما فيلم البارحة في تلفاز الهنغار, بدقيقتيّن, وخمس ثوان, يُحيّي لنا (أتيللا ) المخرج سطر (فاوست) المرعب بأرجوحة حبّ أخرى, من خلال فيلم رسوم متحركة, وكلّ ما يحصل، أنّ الطفل الفتى العاري تماماً على قمة جبل, وفي يده اليُمنى شعلة متقدّة, ثم يهبط, وأثناء هرولته التي تبدأ بالنقصان, والموت, وكذلك الشعلة, وملامح جسده، كلّ ما يمكنه أن يشيخ, ويذبل, وأنت تهرول وحيداً في تلال عارية, وجرداء مثلك, وهذه الشعلة - الحياة كم بدت خلاّبة, وهي تنتهي إلى عود ثقاب, والذي يحاول الفتى, الذي صار هو الآخر عود ثقاب, وعجوز, لو أنه يحميها بكفه من الريح في هذا العراء الشاسع, لئلا ينطفئ, ينطفئ العود, والعجوز, وآخر صورة في الفيلم, كلّ ما يتوجب عليك إذا ما سنحت الفرصة لقراءة هذا الفيلم, أن تقرأ (فاوست) من جديد, وتغضب على شرط . ما الذي يمكن أن تحتويه اللقطة من علامات للإجابة على هكذا حقائق مرّة، أو على الأقل لتقديم كلمة عزاء لا معنى لها, سوى بشاعتها, وكل ذلك في دقيقة, أو ثلاثين, وهي المساحة الشرعية للفيلم القصير الذي أعني, من البديهي أنّ اللغة السينمائية تملك نظاماً من العلامات التي تقوم بدور المُعادل, والمُكافئ المادي للأشياء, والمظاهر, والمفاهيم التي تعبر عنها, والميزة الأساسية لهذه المنظومات الإشارية, تكمن في طاقتها على القيام بوظيفة الإستعاضة, أو الإستبدال, على حدّ تعبير( يوري لوتمان), وهاهو الفيلم القصير يخسر روحه عن طريق مصيدة الإيقاع, إذّ ما إكتظ بالحوار على سبيل المثال, إذّ أنّ ضخّ أكبر قدر ممكن من العلامات, أو تجنيدها لصالح لون مراد تثبيته داخل هذه القصيدة المرئية، سيُصاب قطعاً بالخلل, إذا ما إتكأت هذه العلامات على حجارة الحوار, إذّ أن الصمت هو لعبة الإرواء في كلّ قصيدة حقيقية, ومن دون الغرق في شرك الإشارة ( الحوارية - المنطوقة), ومثلما نُعوّل على البنية الزمنية في الخطاب الشعريّ, يطمح الفيلم القصير لتعلّم هذا الدرس, أو تبادله مع المكتوب . الأمر بحاجة إلى ثقة عالية بعدسة الكاميرا.

والإستفادة من ضربات فرشاة - كوخ - والإخلاص في مشروع التفحم.

عن الفيلم القصير, لست بمعلّم, بل أحاول أن أفكر بالنصّ المرئيّ. يبقى القول, بأنّ( أيزنشتاين) هو من أوائل الشعراء السينمائيين الذين عملوا على دعم الصورة بالطاقات الشعرية.

وأنّ اللقطة الكبيرة, هي من أشهر الحروف في جمل الأفلام القصيرة.

وأنّ المونتاج بالنسبة للنصّ المرئيّ القصير هذا, هو بمثابة لوثة الطفولة التي يُحركها الشاعر بإيقاع صوته، ولما يصرّ على تمزيقنا أثناء قراءتنا الخجولة له...!!


* بعض المقاطع مأخوذة من مقالة لي بعنوان (نافذة بإنتظار شاعر) المنشورة في جريدة الاتحاد(السليمانية).

رئة السينما






ظلّ الفيلم القصير رئة السينما المُخلصة, كلما أُطيح بها من خلال تعاقب موجات الأفلام التجارية الرخيصة هنا, وهناك, وظلّ النافذة الأكيدة, والأهمّ للولوج إلى عالم الشعر السينمائيّ, يمكنني أن أتجنى على السينما الروائية من خلال السينما القصيرة, حين أدّعيّ, بأنّ الفيلم القصير هو الاقرب إلى جوهر السينما الروحي, وهو أقرب الأشكال الإبداعية إلى الموسيقى, وبما أن نعمة مضامين الموسيقى تكمن في كونها مضامين حلمية قالبة للتأويل في شتى الجهات, يصبح الفيلم القصير الشكل السينمائي الأكثر قدرةً على الحلم, وعلى الإمساك بأوتار أوجاعنا السرية. واليوم, يكون الفيلم القصير قد تخلص من الكثير من القيود الإنتاجية, والهيمنة, مع خروج كلّ هذه الكاميرات الرقمية, وهو يُحقق, ويُنجز من خلال هذه الكاميرات الكثير من أحلام السينما الشابة, وحتى تلك التي ندعوها (محترفة), صارت تلتفت, وتخططّ بقوة لإستغلال هذه التقنية الرقمية, وبالفعل, مثلما شهدنا كيف أنجز واحدٌ من مؤسّسي حركة الدوغما(1995) الدنماركي (لا رس فون تريير) روائع سينمائية بهذه الكاميرات(الخفيفة), لا تقلّ روعةً, وأهميةً عن تحف السينما التي أهداها لنا شعراء السينما الكبار. ويبدو بأن هبة هذه الكاميرات الرقمية, منحت السينما القصيرة, قبل كل شيئ حرية التعبير بأقصى ما نتخيل, وحرّكت عجلة الإنتاج مثلما نشهد, كل هذه الأفلام القصيرة التي تُعرض في مهرجانات السينما في كافة أنحاء العالم, ومكنت سينمات ـ كانت قابعة في الظلام ـ من التحرك, والخروج إلى النور.

فهرنهايت 9-11 ظاهرة عام سينمائي





شهدنا جميعا قبل فترة الانتصارات التي حققها فيلم ( فهرنهايت 11/9) بتوقيع الامريكي مايكل مور. رغم انها انتصارات على الطريقة الدونكيخوتية. قد يستفز البعض من هذا الطرح وستكرر علينا اسطوانة جرأة الرجل او تستعرض امامنا الارقام ( 21 مليون دولار خلال الايام الاولى من عرض الفيلم) هذه الارقام التي فتحت شهية بعض النقاد والكثير من شركات الانتاج لاعادة النظر في هذه الطريقة المربحة بعد ان ظل الفيلم التسجلي لزمن طويل يعاني من ازمة التمويل رغم اننا في العقد الاخير من القرن المنصرم شهدنا اتساع الاهتمام في هذا النوع السينمائي الخطير من خلال اقامة المهرجانات في مختلف انحاء العالم واتجاه عدد كبير من المخرجين الى تجسيد افكارهم وطموحاتهم عن طريق هذا الخطاب البصري، الذي ندعوه بالفيلم التسجيلي. لكن هل الفيلم التسجيلي هو تقرير مخابراتي ناجح عن انسان او مكان او حدث وهي المصادر التي غالبا مايطيب للفلم التسجيلي محاكاتها. أم ان الفيلم التسجيلي هو القدرة على اثارة الفضائح والاتكاء على فضيلة الجرأة !!. اننا نتعامل مع شكل فني سينمائي له ادواته الخلاقة والتي رسخت عبر محاولات وتجارب منذ الرواد حتى يومنا هذا. اذ يقول الاب الروحي للسينما التسجيلية ( جريرسون) في اولى بديهيات هذا الفن :ـ ان الفيلم التسجيلي هو معالجة الاحداث الواقعية الجارية بأسلوب الخلق الفني. حتى الفيلم التسجيلي السياسي والذي ينتمي اليه فلم( مور) هو بشروط الخلق الفني. فتاريخ السينما التسجيلية يشهد على تجارب غنية ومؤثرة في مجال الفيلم التسجيلي السياسي . بحكم ان فيلم ( مور ) اراد ان يسجل موقفا نقديا سياسيا . ففي عام ( 1957 ) قدم المخرج الفرنسي ( كريس ماركر) والذي برع في مجموعة من الافلام التسجيلية السياسية، فيلمه ( رسائل من سيبريا ) والذي صوره في روسيا . في هذا الفيلم رسخ ( ماركر) قدرة الفلم التسجيلي في ان يكون موضوعيا في الوقت الذي لم يتخلى فيه عن الشروط الفنية بل انه كان يوصف بشاعر التقنية. ففي فيلمه ( رسائل من سيبيريا) قدم مشهدا واحدا صوره في الشارع العام ويكرره ثلاث مرات مع تغيير التعليق المرافق للمشهد في كل مرة. حيث يظهر في المشهد مجموعة من العمال يشتغلون في حفرة في الشارع بينما تمر خلفهم حافلة مزدحمة بالركاب. وظف في التعليق الاول المصاحب للمشهد تعليقا سلبيا ينتقد فيه السلطة. وفي الثاني تعليقا دعائيا يخدم السلطة. وثالثا تعليقا محايدا. انه اسلوب للمشاركة. لا للجلوس امام الشاشة وانتظار الحقائق ، والتي من يدعي انه يملكها ؟؟

بل اننا بامكاننا ايضا الحديث عن الشعر في السينما التسجيلية من خلال تجارب عديدة في تاريخ هذا الفن. ومن الامثلة العديدة فيلم( المطر) للهولندي ( يوريس ايفنيس) حين كتب قصيدته المرئية عن اللحظات الاولى لهطول المطر في انحاء المدينة. والحديث عن السخرية السوداء في فيلم ( فاشية عادية ) لميخائيل روم. وعن روائع ( دزيغا فيرتوف) التسجيلية والذي كان يصفه شارلي شابلن ( بالموسيقار العظيم).

نعم، لا يمكن النظر للفيلم التسجيلي على كونه مجرد واسطة لأثارة الفضائح او اشهار حقائق حسب الطلب . في هذا اجحاف واستسهال لأهم واخطر الانواع السينمائية. اما الانتصار الحقيقي للامريكي ( مور) قد نجده في تعبير كتبه الياس خوري في مقاله ( الوجه الاخر لبوش) فقد كتب يقول (( في نيويورك يقف الجمهور مصفقا في نهاية الفيلم. وفي باريس وبيروت تشتعل الايدي لحظة انطفاء الشاشة. مايكل مور في فيلمه التسجيلي الخير فهرنهايت 11/9 * يفش خلق* الناس )) . وهذا ما لايمكنه ان يصمد بوجه الزمن. لاننا لانكتب القصيدة ولا نلون ولا نملأ الشاشة من اجل ( فش خلق الناس !!). اننا ازاء خطاب بصري له آليات اشتغال جمالية ومعرفية. ان ظاهرة ( مور) هي ابنة المغامرة الامريكية السطحية. لا المغامرة الخلاقة. هذا يشبه كثيرا كتب السيرة الفضائحية والتي تلقى رواجا هائلا وتحقق ارباحا خيالية على حساب ادب السيرة والرواية التي حفرت في وجدان البشرية الضوء والسؤال.