الاثنين، 31 مارس 2008

كلمتان في اللقطة الطويلة - التابوت







هذا الدرس,ُ هو أرجوحةٌ مشدودةٌ إلى شجرتيّن, واحدةٌ بالأحمر, والثانية بالأبيض, قدمٌ في الموت, وقدمٌ في العذاب, هكذا أحبّ أن أفكر بلوحة (أنغمار بيرغمان) السينمائية : (همساتٌ, وصرخات) .

الخصوبة تحتضر, بعد بضعة لقطات لحديقة خلابة, وهادئة إلى حدّ الشكّ, لقطاتٌ لساعة يمضي بها عقربها إلى حدّ الشكّ مرةً أخرى, ثم واحدة نائمة بثوب أبيض في صالة حمراء، الجدران, والأثاث, وأضيف أنا جوفك/ المتلقي, وإمرأة ثانية في غرفة, ونائمة، لكن, هذه المرة تفيق بكلّ شحوبها, يبدو أنها مريضة, وسوف تحتضر طوال زمن الفيلم الأرجوحة, وثم تموت, أو لا تموت, وإذّ ما تخيلت أن فوق الأرجوحة سماء, وتحتها أرض, وأنك وُلدت, وسوف تمضي, فإنك سترضى, بلا أدنى شكّ بهذه اللعبة, بين هاتين النقطتين نحتضر, بين الرغبة, والألم, بين الهمس, والصراخ, وبين كلّ لونيّن سنتأرجح, كما هي الحكاية أبداً.

أربعة نساء بأثواب طويلة, وبيضاء, لقد بدأ الفيلم/الألم في صالة البيت, ودائماً الأحمر, وعين (برغمان) التابوت. كثيرون هم الذين لا يحتملون اليوم محنة مشاهدة أفلام (بيرغمان), حيث أن كلّ مشهد يجرّ نفسه ببطئ, ووحشة لا تُطاق, بإستثناء الذين مازالوا يؤمنون بما هتف به مكتشف السينما (لوميّير) وهو يشاهد أول صوره, وهي تتحرك على الشاشة : (هذا هو أعظم نضال ضدّ الموت), لهذا, فإنّ الحديث عن كاميرا (بيرغمان), هو حديث عن شاشة كفنّ, وقصيدة.


اللقطة :
إقتصادٌ بليغُ, ومُتعمدٌ في حركة الكاميرا, بل هي مريضةٌ, متوجعةٌ, مرعوبةٌ, مثل أرواح النساء اللواتي يواجهن عين (بيرغمان), العدسة المسرحية, ولقطةٌ ساكنةٌ, وطويلة(زمن اللقطة) كثيراً ما تشتهي لو أنه يقصها، إلاّ أن (بيرغمان) يذهب في غالبية أفلامه لترك حبال اللقطة تشدّ على أنفاس المُتلقي بلا رحمة, كخشبة المسرح التي تسرق الأنفاس, والذي هو أبنها, وجنينها, حتى أنه في (الهمسات), يتمادى, ويلجأ إلى توظيف تكنيك الإنتقال من مشهد إلى آخر بواسطة الfadein/fadeout لا كما إعتدنا على خلفية مظلمة بالأسود, بل بخلفية مظلمة بالأحمر, مما يخلف شعوراً بأنّ المشهد لم ينته, ولن, وكأنّ الفيلم مشهد واحد, ومؤلم في جوف الأحمر، البيت الذي تدور فيه جميع أحداث الفيلم، هذا, إذا ما كان هنالك أحداث بالطريقة التي تتخيلها, تذكرتُ أن أقول بأن تايتل بداية الفيلم هو الآخر مطبوع على خلفية من الأحمر, ماالذي يريده (بيرغمان) من كلّ هذا الأحمر وسط هذا العذاب, والموت البطئ ؟ هو الذي يقول أن صورة نساء في غرفة مطلية بهذا اللون الرغبة، أو حلمٌ طارده لفترة طويلة من الزمن, قبل أن ينقل هذه اللوحة إلى الشاشة, حسناً, مطاردةٌ رمزيةٌ هي التي أنجبت هذا الدم, والموت. ولولا أننا عبيد لإشارات, ودلالات الرموز, لقلتُ أنّ اللون الأحمر في هذا الفيلم, ليس سوى قبر معتم, وأسودٌ من العدم الخالص, غير أنّ الأحمر بجوار إمرأة يفتح باب القراءة إلى ماتشتهيه المخيلة, فضاء اللون يكمن في تحريره من إسم الصبغة المتوارثة, الآية التي تريد أنّ تخلص للون, والإحساس, هي سطورٌ موهومة, لكن, ما يعنيني لقطة (بيرغمان), الجرأة التي تفتقدها سينما اليوم في ذوبان الكاميرا بالمعنى, وبإخلاص نظيف، خوفاً من خسارة زبون, أو بحجة إيقاع العصر الإلكتروني.

ولعلّ من أهم المآزق التي تواجهها اللقطة الطويلة في أفلام (بيرغمان)، خاصةً إذا ما كانت محمّلةً بكلّ هذا الوجع, والسكينة, كما في لوحته (الهمسات), هو مأزق التمثيل, أنت بحاجة إلى جثث, بقدر ما أنت بحاجة إلى أبطال شاشة, ولعلّ (بيرغمان) هو الوحيد القادر على إختيار الممثلين الذين يمكنهم الصمود أمام لقطة مصرّة على نبش ما يمكن أن يفصح عنه الوجه الإنساني لحظة التفسخ, إذّ تسعى كاميرته تقديم ذلك, وعلى سبيل المثال, من خلال تغييّر أحجام اللقطات داخل اللقطة الواحدة, أيّ أن التقطيع يتمّ داخل اللقطة الواحدة من خلال حركة الكاميرا, وهو أسلوب معروف لدى السينمائيين منذ فترة طويلة, إلاّ أن ما يُميّز لقطة (بيرغمان) أنها تشتغل على اللوحة أكثر من مرة داخل اللقطة نفسها, وما يُميّز اللقطة الطويلة أيضاً هي قدرتها على التأمل، وهي تواجه ما يمكن قطفه من هذا العالم على أساس أنها صور درس, أو صرخة, وبما أن هذا الشاعر السينمائيّ, هو وريثٌ شرعيٌّ لأبناء الصمت, ومعلميه, هو الذي يقول عن تاركوفسكي : (إنه مثلي... لا يحب الكلام، بل السينما) من هذا, وأدّق, كان الصمت لقطته التابوت, فهو يستغني في أغلب الأحيان حتى عن الموسيقى, والتي كثيراً ما نشعر أن لحظتها قد حانت, لكنه بدل ذلك, يُطلق للقطته الطويلة المزيد من حرية الصمت, والهدوء, حتى يتجلى المعنى على هيئة ركام مفزع من الأحاسيس الدامية, وكأنّ (بيرغمان) لا يثق لا بالكلام, وحسب, وإنما بجمهوره الذي عليه أن يتأرجح بين الهمس, والصراخ, حتى تجفّ طمأنينته الموهومة, إن لقطة (بيرغمان) هي عقاب, وهي سمٌّ بطئ, هي كمشهد الأخت الميتة التي تفيق من أجل لمسة يدّ حالمة بدفء الدم، بينما نفزع نحن من الأحياء, والأموات, وبنفس الذريعة, إننا نهمس من الحب, ونصرخ من الألم، لكننا, سرعان ما نعود, ونهمس من الألم, ونصرخ من الحبّ, الدرس في الأرجوحة, ولقطة الشاعر (أنغمار بيرغمان) هي الدرس السينمائيّ المُوحش, وهي ردّ إعتبار دائم لجوهر السينما الذي تلطخه في كلّ مرة مومسات صالات الفرجة الرخيصة, وهي نسفٌ مباغتٌ لبراءة الكاميرا، إذّ يبدو أن فكرة تشغيل الكاميرا بعد مشاهدة فيلم (همسات, وصرخات) هي فكرةٌ ليست بهذه السهولة, أو أننا سنكتشف أن غالبية الأفلام التي تُعرض اليوم, ماهي إلا إسرافٌ ساذجٌ في مفردات اللغة السينمائية, وأننا سنتعلم أن لقطةً واحدةً مخلصة, يمكن لها أن تكون كلّ هذا التشييّع المرئيّ المُوجع, والمُخزي لهشاشة الكائن, وخيبته, حنطة كلّ إبداع عين تابوت!!

أما السعداء, فهم سينمائيّون وقحون.

ليست هناك تعليقات: