الاثنين، 31 مارس 2008

الفيلم القصير





في كلّ ليلة, تُنهي قناةٌ تلفزيونيةٌ بثّها في البلد الذي أشكّ بأنني سوف أموتُ فيه، برامجها بمجموعة من الأفلام القصيرة جداً ( نخبويّة), مع أنّ قناة ( tv2) هي محطةٌ تجاريةٌ، وأخيراً, بقصيدة لشاعر من شعراء المجر الكبار, البلد الذي لن أموت فيه مُطلقاً .

وما دامت الكلمة مُصرّة على إعلان وقاحتها/عذريتها، بكلّ هذه الحدّة في جسّد القصيدة, كان على الصورة في الفيلم القصير, والذي شيّد خارطة إستقلاله عن الفيلم الروائي من خلال طاقته الشعرية المُتفردة، إضافة إلى الأسباب البديهية / التقنية في الإستقلال, أن تحفر لها في متن القصيدة المرئية/الفيلم القصير فضاءً رحباً, وبدقة, إذّ, بمُجرد وعيّ صانع الفيلم بورطة الزمن، سرعان ما تتمكن منه أخلاق الصورة فيما يخصّ التكثيف, والإختزال, أما فيما يتعلق بكيمياء اللقطة, فهو من نصيب موسيقى الصورة التي تشتدّ, وتضمحل مع قوة الإمساك بالوتر السريّ في مبدأ التوازن السمعيّ – البصريّ, والذي تحقق الصورة من خلاله نصراً آنياً (طبيعة السينما المُضارعة- السرد لحظة التلقي), من المُمكن أن يمتدّ كما لعنة القصيدة الجيدة في إيقاظ ما تودّ, ومالا تودّ جثة حبيبنا المتلقي العزيز, في حين أنّ زمن الفيلم الروائي يمكنه العبور, وإصطياد الدهشة من خلال الترهل الذي سوف يحلّ بالمُشاهد على الرغم منه، فهذا الشكل من الإسترخاء المُتعمّد, والذي تحفزه الصور المُتدفقة من الشاشة طيلة ساعة, أو ساعتين، بإمكانها خلق حالة من الإرباك, والتوتر في ذاكرة المشاهد, والتي لن تكفّ طوال تواجدها في الصالة, أو أمام الشاشة في البيت(مع الفارق الكبير علمياً, وشعرياً) عن إستحضار ما في خزينها, أو حتى توهمه لممارسة الإنفعال بشكل تطهيريّ, كلاسيكيّ, بإستثناء الأفلام المُرعبة(برغمان, فلليني, غودار, أكيرو كيروساوا, بازوليني, أوليفر ستون, والأندر غراوند, ..الخ ), أما بالنسبة للفيلم القصير, فهو نقيض ذلك الترهل, فالقصيدة الجيدة, ما هي إلاّ عملية نسف مباغت لكلّ أشكال الزمن, والأروع, زمن التلقي المفتوح, إبتكار زمن بحاجة لمُلامسة الكارثة, فمذاقُ الكارثة لا يقلُّ لزوجة عن زمن الكوابيس المائعة في السرير/الحلم، كما هو معروف, أو كما بالإمكان أن تكون, ومن هكذا متانة هشّة, أخذ الفيلم القصير على عاتقه البحث عن ولادة مُثمرة أثناء فترة حمله القصير, ومخاضه, في ذلك, يستند إلى ما يمكن تمزيقه مما للسينما من أوعية, وقوانين تسعى للمُصالحة مع المتلقي لأغراض وقحة نفعية, ولا أقصد الرهاب الذي أصاب البعض من متوهمي الحداثات تجاه اللغة (المرئيّ- المكتوب) لسدّ الطريق أمام قصتنا الحزينة/جمهورنا الأليف ..!!

" تلبثي أيتها اللحظة, فأنت رائعة الجمال " يقول فاوست - غوته - ما يطمح له الكائن المكرّر في شوقه المؤلم للتنفس بعيداً عن مصيدة الزوال, كما فيلم البارحة في تلفاز الهنغار, بدقيقتيّن, وخمس ثوان, يُحيّي لنا (أتيللا ) المخرج سطر (فاوست) المرعب بأرجوحة حبّ أخرى, من خلال فيلم رسوم متحركة, وكلّ ما يحصل، أنّ الطفل الفتى العاري تماماً على قمة جبل, وفي يده اليُمنى شعلة متقدّة, ثم يهبط, وأثناء هرولته التي تبدأ بالنقصان, والموت, وكذلك الشعلة, وملامح جسده، كلّ ما يمكنه أن يشيخ, ويذبل, وأنت تهرول وحيداً في تلال عارية, وجرداء مثلك, وهذه الشعلة - الحياة كم بدت خلاّبة, وهي تنتهي إلى عود ثقاب, والذي يحاول الفتى, الذي صار هو الآخر عود ثقاب, وعجوز, لو أنه يحميها بكفه من الريح في هذا العراء الشاسع, لئلا ينطفئ, ينطفئ العود, والعجوز, وآخر صورة في الفيلم, كلّ ما يتوجب عليك إذا ما سنحت الفرصة لقراءة هذا الفيلم, أن تقرأ (فاوست) من جديد, وتغضب على شرط . ما الذي يمكن أن تحتويه اللقطة من علامات للإجابة على هكذا حقائق مرّة، أو على الأقل لتقديم كلمة عزاء لا معنى لها, سوى بشاعتها, وكل ذلك في دقيقة, أو ثلاثين, وهي المساحة الشرعية للفيلم القصير الذي أعني, من البديهي أنّ اللغة السينمائية تملك نظاماً من العلامات التي تقوم بدور المُعادل, والمُكافئ المادي للأشياء, والمظاهر, والمفاهيم التي تعبر عنها, والميزة الأساسية لهذه المنظومات الإشارية, تكمن في طاقتها على القيام بوظيفة الإستعاضة, أو الإستبدال, على حدّ تعبير( يوري لوتمان), وهاهو الفيلم القصير يخسر روحه عن طريق مصيدة الإيقاع, إذّ ما إكتظ بالحوار على سبيل المثال, إذّ أنّ ضخّ أكبر قدر ممكن من العلامات, أو تجنيدها لصالح لون مراد تثبيته داخل هذه القصيدة المرئية، سيُصاب قطعاً بالخلل, إذا ما إتكأت هذه العلامات على حجارة الحوار, إذّ أن الصمت هو لعبة الإرواء في كلّ قصيدة حقيقية, ومن دون الغرق في شرك الإشارة ( الحوارية - المنطوقة), ومثلما نُعوّل على البنية الزمنية في الخطاب الشعريّ, يطمح الفيلم القصير لتعلّم هذا الدرس, أو تبادله مع المكتوب . الأمر بحاجة إلى ثقة عالية بعدسة الكاميرا.

والإستفادة من ضربات فرشاة - كوخ - والإخلاص في مشروع التفحم.

عن الفيلم القصير, لست بمعلّم, بل أحاول أن أفكر بالنصّ المرئيّ. يبقى القول, بأنّ( أيزنشتاين) هو من أوائل الشعراء السينمائيين الذين عملوا على دعم الصورة بالطاقات الشعرية.

وأنّ اللقطة الكبيرة, هي من أشهر الحروف في جمل الأفلام القصيرة.

وأنّ المونتاج بالنسبة للنصّ المرئيّ القصير هذا, هو بمثابة لوثة الطفولة التي يُحركها الشاعر بإيقاع صوته، ولما يصرّ على تمزيقنا أثناء قراءتنا الخجولة له...!!


* بعض المقاطع مأخوذة من مقالة لي بعنوان (نافذة بإنتظار شاعر) المنشورة في جريدة الاتحاد(السليمانية).

ليست هناك تعليقات: